في زمن "كورونا"، يتساءل الكثيرون إن كانت إجراءات الحجر الصحي "غير مسبوقة" في تاريخ المغرب، وعن تعامل السلطة والمجتمع في المغرب مع الجوائح التي اجتاحت البلاد في الماضي.
في هذا الحوار ، يقدم محمد نبيل مُلين، الأستاذ الباحث في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي والحاصل على دكتوراه في التاريخ من جامعة السـربون وعلى دكتوراه في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية في باريس، لقراء "تيلكيل عربي"، إضاءات على هذا التاريخ غير المعروف عن تاريخ الأوبئة والجوائح في المغرب وتعامل السلاطين والمخزن والفقهاء والمتصوفة والعامة معها.
ولمُلين العديد من المؤلفات، من بينها "علماء الإسلام: تاريخ وبنية المؤسسة الدينية في السعودية بين القرنين الثامن عشر والحادي والعشرين" (بيروت، 2011) و"السلطان الشريف: الجذور الدينية والسياسية للدولة المخزنية في المغرب" (الرباط، 2013) و"الخلافة: التاريخ السياسي للإسلام" (بيروت، 2017) و"فكرة الدستور في المغرب: وثائق ونصوص" (1901-2011) (الدار البيضاء، 2017) و"أطياف الإسلام السياسي: التيارات والعقائد والإيديولوجيات"، (بيروت، 2020)...
هل صحيح أن للمغرب تاريخ طويل مع انتشار الأوبئة والجوائح؟
على غرار معظم بلدان العالم، كانت العديد من الكوارث الطبيعية تعصف بالمغرب بشكل منتظم منذ أقدم العصور. فبين القرن التاسع والقرن العشرين مثلا تمّ تسجيل حوالي 45 جائحة كبرى كان أهمها الطاعون بمختلف أنواعه والجذام والجدري والزهري والكوليرا والحمى الصفراء والتفوئيد والحصبة. زد على ذلك، المجاعات المتكررة التي كانت تترتب في أغلب الأوقات عن عدم انتظام تهاطل الأمطار وهجوم الجراد على المحاصيل. وهو ما كانت له نتائج وخيمة على كافة المستويات لاسيما الديمغرافي حيث كان المغرب يخسر كلّ مرة جزءً مهما من سكانه قد يصل، في بعض الأحيان، إلى 50 في المائة منهم.
كيف كانت السلطات تتعامل مع تلك الأوبئة؟
رغم قلة الموارد وانعدام الآليات الفعالة، كان المخزن بين الفينة والأخرى يتخذ بعض التدابيرالاحترازية لحماية الرعية ويجند الموارد المتوفرة لتخفيف وطأة الجائحات عليها.
فإلى جانب إغلاق الحدود في القليل من الأحيان، كان بعض السلاطين كإسماعيل بن الشريف ومحمد بن عبد الله ومحمد بن عبد الرحمان والحسن الأول يوزعون المؤن والمال على الناس ويوزعون البذور على الفلاحين ويستوردون السلع ويحددون الأسعار ويحاربون الاحتكار. لكن هذه التدابير لم تكن منظمة ومستمرة. فالمخزن كمنظومة تقليدانية هشة لم يكن يحتكم على الوسائل والإرادة الضروريتين لوضع سياسات عمومية في هذا المجال الحساس... لذلك، فقد كان المغاربة في أغلب الأحوال يواجهون الكوارث دون أدنى مساعدة. ففي زمن الأوبئة والمجاعات، كان الناس يلتجئون، مثلا، لأكل الأعشاب البرية والجيفة وبعض الحيوانات المحرمة كالقطط والكلاب والخنازير بل إنهم في بعض الشدائد كانوا يلتهمون اللحوم البشرية كما وقع مثلا في سنوات 1779 و1847 و1879.
هل سبق أن أغلقت الحدود المغربية بسبب انتشار الأوبئة؟
كانت معظم الأوبئة التي تضرب المغرب تأتي من الخارج إما عن طريق البحر عبر موانئ الشمال لاسيما طنجة وتطوان أو عن طريق البر عبر المسالك الآتية من الجزائر. وقد فطن بعض السلاطين إلى ذلك. ففي سنة 1582، أمر السلطان أحمد المنصور بإغلاق حدود الإيالة الشريفة، رغم أن هذا المفهوم كان مختلفا عن المعنى المتداول اليوم، وحظر أيضا أي اتصال بالأجانب، عندما علم أن الطاعون تفشى في كل من الجزائر واسبانيا.
بفضل هذا الإجراء الاحترازي غير المسبوق، تفادى المغرب كارثة محققة. فعل السلطان سليمان الشيء نفسه في سنوات 1804 و1810 و1817، عملا بنصيحة القناصلة الأوروبيين. ولئن كانت هذه التدابير أبدت نوعا من الفعالية، فلم ير القائمون على المخزن مأسستها واستدامتها حتى يتسنى للمغرب حماية نفسه كما كان يجري في العديد من البلدان.
هل سبق أن فُرض "حجر صحي" على المغاربة؟
بدأ العمل بالحجر الصحي أو "الكرنتينة"؛ أي عزل أيّ شخص قادم من خارج البلد لمدة قد تطول أو تقصر لتفادي انتشار الوباء، في أوروبا في القرن الرابع عشر لاجتناب الفظائع التي تسبب بها الطاعون الأسود. لكن أقدم المحاولات لإدخال هذا التدبير إلى المغرب تعود فقط إلى نهاية القرن الثامن عشر. فقد أنشأ القناصلة الأوروبيون سنة 1792 مجلسا صحيا حاول فرض عدة تدابير صحية على المخزن لاسيما الحجر. لئن كان هذا الإجراء قد طُبّق بنجاح في بعض الأوقات إلا أنه كان يلقى معارضة شديدة من قبل السلطان والتّجار ومعظم الفقهاء لأسباب دينية وسياسية واقتصادية. فعلى سبيل المثال، حاول بعض المتنورين وعلى رأسهم وزير الخارجية محمد بركاش فرض نطاق صحي حول طنجة سنة 1878 لحمايتها من الكوليرا فعنفهم السلطان الحسن الأول وأمرهم بالعدول عن هذه "البدعة". وقد كان لهذا التعنت غير المبرر نتائج وخيمة على كافة المستويات لاسيما تمزق النسيج الاجتماعي وانهيار القدرة المالية للمخزن بسبب تراجع عدد السكان.
وهل سبق أن أغلقت المساجد ومنعت المواسم بسبب الأوبئة؟
من المرجح أنّ الكثير من دور العبادة كانت تُغلق وبعض المواسم تُلغى إبّان الجائحات التي كانت تضرب المغرب بشكل دوري منذ العصر الوسيط. لكن الوثائق التي بين أيدينا لا تتحدث عن ذلك كثيرا لأسباب دينية على ما يبدو. ففي سنة 1056 مثلا عُلقت الصلوات الجماعية وصُفّدت أبواب المساجد بسبب الطاعون. لكن في غالب الأوقات كانت هذه المؤسسات تظلّ مفتوحة، حيث تحج إليها أعداد هائلة من الناس طلبا للغوث الإلهي وهو ما كانت تتمخض عنه نتائج عكسية في معظم الأوقات. فقد كانت دور العبادة والزوايا والمواسم من أهم بؤر العدوى وأهم نقاط انتشار الأمراض الفتاكة. زد على ذلك أن الكثير من الأوبئة دخلت إلى المغرب بسبب الحجاج العائدين من المشرق، سواء عن طريق البر أو البحر وهو ما حدث مثلا سنة 1818 حيث هلك حوالي 10% من سكان المغرب.
وكيف تفاعل الفقهاء والصوفية مع تلك الجوائح؟
من الناحية الفكرية، كان رجال الدين من الفقهاء والمتصوفة ينقسمون إلى فريقين منذ العصر الوسيط. كانت نزعة أولهما عقلانية إلى حدّ ما، حيث حاولوا تفسير هذه الظواهر بطريقة توفق بين النصوص المقدسةوالعلم التجريبي حسب مقاييس العصر.
فقد كانوا يرون أن المسلم يجب أن يتصدى إلى الأوبئة كباقي الأمراض عبر اتخاذ مجموعة من التدابير كالعزل الصحي بكافة أنواعه والنظافة وتناول الأدوية الخ. وكان من أهم ممثلي هذا التيار ابن الخطيب وابن خلدون ومحمد بن القاسم الفيلالي ومحمد بن يحيى السوسي. أما الفريق الثاني، وقد كان الغالب في معظم الفترات إن لم تكن كلها، فقد تبنى نزعة جبرية غيبية. إذ كان يعتبر الوباء مهما كانت أسبابه قضاء وقدرا.
لذلك، حرّم اتخاذ أية تدابير وقائية أو علاجية كالحجر الصحي والعزل والفرار والتداوي. وكان من أهم وجوه هذا التيار محمد بناني ومحمد الحضيكي وأحمد اللمطي وأحمد بن عجيبة والعربي المشرفي وأحمد الناصري وعبد الله بن خضراء. والجدير بالذكر أن كلا الفريقين كان يستعمل آيات من القرآن وأحاديث منسوبة إلى النبي لتعزيز رأيه.
من الناحية الاجتماعية، كان رجال الدين، لاسيما المتصوفة، في الكثير من الأوقات يقومون بما يقوم به المخزن على صعيد الإيالة، لكن، على المستوى المحلي، كانوا يطعمون الطعام ويأوون المتشردين ويفرقون الصدقات ويقرضون المعوزين ويوزعون البذور على المزارعين ويقيمون المجالس الدينية...
وقد ذاع صيت العديد من الطّرق بفضل ذلك، كالدلائية والدرقاوية والوزانية. لكن في بعض الأوقات، كان هؤلاء وغيرهم، من التجار ورجال المخزن والأمراء، يستغلون هذه الظروف الصعبة للاستيلاء على أراضي ومواشي وأثاث الناس باستعمال طرق ملتوية لتكوين ثروات هائلة...