دشّن المغرب مرحلة جديدة في استراتيجيته الدفاعية باستلام أول دفعة من مروحيات الهجوم الأمريكية "AH-64 Apache"، في مارس 2025، في إطار خطة تحديث شاملة ترمي إلى إعادة هيكلة القدرات العسكرية للمملكة، وتحقيق استقلالية استراتيجية في محيط إقليمي ودولي شديد التقلب.
ويأتي ذلك، وفقا لتقرير مشترك صادر عن مؤسسة "Konrad Adenauer Stiftung" ومؤسسة "Global Governance and Sovereignty Foundation"، في شهر ماي 2025، ضمن رؤية متكاملة تستهدف ترسيخ الردع الإقليمي، وسط سباق تسلح مع الجزائر، وتهديدات عابرة للحدود تمتد من الساحل الإفريقي إلى ضفتي المتوسط.
بين الردع والسيطرة.. معادلة المغرب والجزائر
وسجل التقرير أن المغرب يشغل موقعا حرجا ضمن معادلة أمنية متوترة في شمال إفريقيا؛ حيث يُجاور الجزائر التي تُعد ثالث دولة عالميا في الإنفاق العسكري نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، بعد أوكرانيا وإسرائيل. هذه الدينامية تدفع الرباط إلى تبني نموذج دفاعي مغاير يقوم على التكنولوجيا المتقدمة والأنظمة القابلة للتشغيل المشترك مع الحلفاء، بدلا من الكثافة العددية. وتعزز التهديدات الجهادية في منطقة الساحل، إلى جانب التحركات الانفصالية في جنوب المملكة، الحاجة إلى منظومة دفاعية مرنة ودقيقة.
غير أن التقرير حذر من الانزلاق إلى دوامة مكلفة من "الرد على الرد"؛ حيث أوصت المؤسستان باعتماد مقاربة دفاعية متوازنة، ترتكز على أنظمة غير استفزازية؛ مثل "Patriot PAC-3"، والتقليل من النفقات غير المستدامة، مع تعزيز الجاهزية التشغيلية.
سباق تسلح غير معلن.. التحديث العسكري في الجزائر
وفي خلفية هذا التحول المغربي، تواصل الجزائر استثماراتها المكثفة في منظومتها العسكرية التقليدية، عبر صفقات ضخمة مع روسيا شملت منظومات "S-400" ودبابات "T-90"، إضافة إلى تحديث أسطولها البحري بفرقاطات وغواصات هجومية. ويُظهر هذا التوجه اعتمادا على الكثافة العددية واستراتيجيات الردع الواسع، دون تركيز واضح على التشغيل المشترك أو التكنولوجيا الدقيقة؛ مما يعكس اختلافا نوعيا في فلسفة الدفاع بين البلدين.
كما تشير تقديرات إلى أن الجزائر تفتقر إلى بنية تعاون دفاعي عابر للقارات على غرار المغرب؛ ما يجعل تحديثها يعتمد بدرجة أكبر على الاستيراد التقليدي دون رؤية سيادية للتصنيع المحلي أو التنسيق الاستخباراتي متعدد الأطراف.
طفرة القوة الجوية.. من "Bayraktar" إلى "Akinci"
وبدأ التحول المغربي في القوة الجوية منذ عام 2021 باقتناء 13 طائرة بدون طيار من طراز "Bayraktar TB2" من تركيا مقابل 70 مليون دولار، تلاها شراء 6 طائرات إضافية، ليصل العدد إلى 19 طائرة. وتتميز هذه المسيّرات بقدرة تحليق تصل إلى 27 ساعة ومدى 150 كيلومترا، وقابلية لتنفيذ ضربات دقيقة باستخدام ذخائر موجهة بالليزر.
لاحقا، عزز المغرب قدراته بمنظومة "Akinci" الأحدث، التي تملك مدى عملياتيا يبلغ 7500 كيلومتر وقدرة تحليق تصل إلى 40 ساعة، وتحمل ذخائر جو-جو وصواريخ دقيقة، مع أنظمة حرب إلكترونية مدمجة واتصال بالأقمار الصناعية؛ ما يوفّر قدرة هجومية واستخباراتية متقدمة ضد التهديدات العابرة للحدود. هذه القفزة التقنية مكّنت القوات المسلحة الملكية من توسيع مجال المراقبة والضربات الاستباقية، خصوصا في المساحات المفتوحة جنوب المملكة.
التصنيع المشترك.. من الاستيراد إلى الشراكة الصناعية
وفي خطوة استراتيجية، أعلنت شركة "Baykar" التركية في فبراير 2025 عن افتتاح مصنع متكامل في المغرب لإنتاج وصيانة الطائرات المسيّرة بطاقة إنتاجية تصل إلى 1000 طائرة سنويا؛ مما يشكل نقلة نوعية في تحول الرباط من مستورد إلى شريك صناعي إقليمي. ويمثل هذا المصنع نواة طموح مغربي أوسع للانخراط في سلاسل التوريد الدولية وتصدير المسيّرات إلى إفريقيا.
كما يُتوقع أن يساهم المصنع في تطوير خبرات محلية في مجال الإلكترونيات العسكرية وصيانة أنظمة الطيران؛ ما يخلق فرصا للتشغيل والاستثمار في القطاعات المرتبطة بالتكنولوجيا المتقدمة، ويمنح الرباط قدرة أكبر على صيانة وتشغيل أسطولها بعيدا عن الضغوط الخارجية.
تحديث سلاح الجو والمدفعية.. دقة وضربات متنقلة
ومن المرتقب أن تتسلم القوات الجوية المغربية بحلول عام 2027 مقاتلات "F-16 Block 70/72"، المزوّدة برادارات "AESA APG-83"، القادرة على تعقب أهداف برية وجوية بدقة عالية. كما وقّعت الرباط صفقة "HIMARS" مع الولايات المتحدة عام 2023 بقيمة 750 مليون دولار، تشمل راجمات صواريخ بعيدة المدى من طراز "ATACMS".
وعلى صعيد المدفعية، اقتنى المغرب 36 وحدة من مدافع "Caesar" الفرنسية، ومدافع "Atmos 2000" الإسرائيلية عيار 155 ملم، المصمّمة خصيصا للانتشار السريع في البيئات الصحراوية، في إطار استراتيجية تقوم على الردع المتنقل والضربات الدقيقة. وتُظهر هذه المنظومة قدرة المغرب على تنفيذ عمليات هجومية مرنة دون الحاجة إلى تحريك قوات كبيرة؛ ما يعزز من قوة الانتشار السريع.
تنويع الشراكات الدفاعية.. تفادي الارتهان
وأبرز التقرير أن المغرب يركّز في توجهه الدفاعي على تنويع مصادر السلاح وتعزيز السيادة التقنية. فإلى جانب الولايات المتحدة وتركيا وفرنسا، وسّعت الرباط علاقاتها مع إسرائيل، وفتحت قنوات تعاون مع دول ناشئة في الصناعات الدفاعية؛ مثل البرازيل والهند وكوريا الجنوبية. وتمكّن المغرب، مؤخرا، من الانضمام إلى سلسلة الإنتاج العالمية لمقاتلات "F-16" التابعة لشركة "Lockheed Martin"، وبدأ في تصنيع أجزاء هيكلية وخزانات.
وأشارت الدراسة إلى أن هذا التنوع لا يعزز فقط الاستقلالية التقنية، بل يرفع من قدرة المغرب التفاوضية، ويُجنبه التعرض لضغوط سياسية أو تكنولوجية من طرف واحد. وهو ما يشكل عنصرا أساسيا في بناء دفاع مستدام غير مرتهن للتقلبات الدولية.
قاعدة جوية جنوبية.. بوابة نحو العمق الإفريقي
وأعلنت السلطات المغربية في مطلع 2025 عن مشروع إنشاء قاعدة جوية جديدة جنوب البلاد مخصصة للطائرات بدون طيار والمقاتلات. ويهدف هذا المشروع إلى تعزيز قدرة المملكة على تنفيذ عمليات استطلاع وضربات دقيقة ضد الجماعات المسلحة في الساحل، وتوسيع العمق العملياتي نحو إفريقيا جنوب الصحراء، بما يدعم أدوار المغرب في الأمن الإقليمي.
وتعكس هذه القاعدة انتقالا من نمط الانتشار الدفاعي إلى نمط الإسقاط الاستراتيجي للنفوذ؛ حيث ستُوظف في عمليات "ISR" (استطلاع، مراقبة، استخبارات) وتوجيه ضربات دقيقة انطلاقا من عمق مغربي، بما يتجاوز الحدود التقليدية ويمنح الرباط هامش مناورة سياسي وأمني أكبر.
مناورات وتحالفات.. عسكرة الدبلوماسية
ويشكّل المغرب، منذ عام 1994، جزءا من حوار المتوسط مع حلف "الناتو"، ويستضيف مناورات "الأسد الإفريقي"، أكبر تمرين عسكري أمريكي في القارة. ويكتسب دوره أهمية أكبر بعد انسحاب واشنطن من النيجر وفرنسا من مالي؛ حيث بات يُنظر إليه كشريك موثوق لملء الفراغ الأمني في الساحل، مستفيدا من قدراته الاستخباراتية والاستطلاعية المتطورة.
ولا تقتصر أهمية هذه المناورات على بعدها الرمزي أو العملياتي فقط، بل إنها تُعيد تشكيل العقيدة العسكرية المغربية نحو نماذج قتالية مرنة قائمة على التشغيل المشترك، وتُسهم في تطوير التدريب، ومهارات القيادة، والجاهزية القتالية في بيئات معقدة؛ ما يضمن جاهزية القوات المسلحة لمواجهة التهديدات الإقليمية الحديثة.
الوساطة في الساحل.. نفوذ ناعم بمضمون أمني
وسلّطت الدراسة الضوء على قدرة المغرب على لعب دور الوسيط بين كتل غرب إفريقيا ودول الساحل، مستفيدا من حياده السياسي وموقعه الجيوستراتيجي. هذا الدور لا يعزّز فقط من نفوذه الإقليمي، بل يُساهم في بناء أمن مستدام يقوم على الحوار والتوازن، لا على الهيمنة والصراع.
وفي ظل تفكك التحالفات التقليدية وازدياد الهوة بين بعض الأنظمة العسكرية والمنظمات الإقليمية، تُشكل الوساطة المغربية منصة ديبلوماسية مؤثرة تتيح التخفيف من حدة التصعيد، وتعزز من فرص التنمية والاستقرار، وهو ما يخدم المصالح الوطنية للمغرب ويعزز وزنه داخل الاتحاد الإفريقي.
فجوة بحرية ومخاطر سيبرانية
ورغم التطورات الكبيرة في سلاحي الجو والبر، أظهرت الدراسة تأخرا واضحا في تحديث القدرات البحرية. فالأسطول المغربي يفتقر إلى فرقاطات متعددة المهام، وقدرات متقدمة لمكافحة الغواصات؛ ما يُضعف قدرة المملكة على حماية سواحلها الممتدة لأكثر من 3500 كلم، ومراقبة أنشطة خصومها في البحر الأبيض المتوسط.
وأوصت الدراسة بوضع استراتيجية بحرية شاملة، والمشاركة بفعالية في مناورات مثل "Flotex 2025" لتعزيز الجاهزية البحرية، إلى جانب تطوير قاعدة لصيانة السفن والمراقبة البحرية، خصوصا في ظل تنامي التهديدات السيبرانية والهجينة التي تستهدف الموانئ وشبكات الاتصالات البحرية.
أما في المجال السيبراني، فأوصى التقرير بإنشاء قيادة عسكرية سيبرانية متخصصة، تُعنى بحماية البنية الرقمية للجيش وتأمين السيادة المعلوماتية، خصوصا في ظل ازدياد الهجمات الإلكترونية وحملات التضليل الرقمي. كما شدد على ضرورة تطوير منظومات إنذار مبكر ورصد إلكتروني في المنشآت الحيوية، وتعميق التعاون مع "الناتو" في هذا المجال.
النواصر كقاطرة للصناعة الدفاعية
وأبرز التقرير أن المغرب بدأ فعليا إنتاج قطع غيار لمدافع "Caesar" وطائرات "Bayraktar"، ويطمح لتحويل مناطق صناعية مثل النواصر إلى مراكز لتصنيع المكونات الدفاعية الدقيقة، مشددا على أهمية إدماج الجامعات والمعاهد التقنية في برامج البحث والتطوير، وتأهيل مهندسين محليين قادرين على مواكبة الصناعات العسكرية المركبة.
وتعمل الرباط في هذا السياق مع شركاء دوليين مثل "Lockheed Martin" و"Baykar" و"Nexter" لتوطين تقنيات التصنيع. ويجري العمل على تطوير خطوط إنتاج قادرة على تصنيع هياكل الطائرات، وقطع المدافع، ومكونات الاتصالات العسكرية. وتُعتبر النواصر مرشحة لتكون أول منطقة صناعية عسكرية متكاملة في شمال إفريقيا.
سباق تسلح أم تحدي التمويل؟
وبلغ الإنفاق الدفاعي المغربي في عام 2024 نحو 5.5 مليارات دولار؛ أي ما يعادل 3.5 في المائة من الناتج المحلي، بزيادة قدرها 2.6 في المائة مقارنة بعام 2023، بحسب معهد "SIPRI". ورغم أهمية هذا التحديث، حذر التقرير من خطر الإنهاك المالي إذا انزلقت المملكة إلى سباق تسلح غير مُخطط مع الجزائر، قد يُهدد أولوياتها التنموية.
وتكمن المخاطر في الكلفة المتصاعدة للصيانة، وقطع الغيار، والدعم اللوجستي المرتبط بالمنظومات المتقدمة؛ ما قد يُحوّل التحديث إلى عبء مالي دائم ما لم يُعالج بمنظور تصنيعي وطني وتكوين كفاءات تقنية قادرة على التشغيل المحلي دون الاعتماد المفرط على الدعم الخارجي.
نحو قوة متعددة المجالات.. شروط النجاح والتحديات
ورأى التقرير أن المغرب يخطو بثبات نحو بناء منظومة دفاعية متكاملة تشمل الجو، والبر، والبحر، والفضاء السيبراني، والصناعة العسكرية. غير أن النجاح في هذا المسار يتوقف على ثلاث معادلات حاسمة: التحكم في الكلفة، والاستثمار في المعرفة، وتفادي التبعية التكنولوجية.
وإلى جانب ذلك، يواجه المغرب تحديا بنيويا يتمثل في ضرورة التوفيق بين الأمن الصلب وأولويات اجتماعية وتنموية ملحة؛ مثل الأمن الغذائي والمائي، والانتقال البيئي، وحماية البنية التحتية الحيوية. ومن هذا المنظور، ينبغي دمج السياسة الدفاعية ضمن رؤية شاملة للأمن القومي، تراعي التوازن بين الردع والسيادة، وبين الاستقلالية التقنية والاستدامة المالية.
فهل يستطيع المغرب، انطلاقا من هذا الزخم الدفاعي، أن يتحول إلى قوة إقليمية متكاملة وقادرة على فرض معادلات جديدة؟ الإجابة ستعتمد على مدى التزامه بتحويل الاستثمار العسكري إلى استقلال استراتيجي، لا إلى عبء تقني ومالي يحدّ من طموحه التنموي.