الصويرة - أحمد مدياني / صور: ياسين تومي
"الصويرة رزقها يأتي من بعيد". عبارة توارثها أبناء موكَادور أبا عن جد، وشاء سحر المدينة وطابعها أن ينبع من بين جدران أسوارها العتيقة ودروبها الضيقة، موسيقى جعلت من هذا الرزق مستمرا في الزمان والمكان، رزق يحج به المغاربة والأجانب مرة في السنة، قبل أن يتحول عندها ذلك لطقس، على مدار السنة والأعوام.
عاصمة الرياح لا تملك فوق ترابها تجمعات صناعية أو إنتاجية، ولم يجد ناسها، منذ القدم، غير تثمين ما تنتجها أرضها من خيرات تنفرد بها عن باقي مدن المغرب والعالم. استثمروا في ما يملكون لقرون، قبل أن يفتح أمامهم باب نحو العالمية، وتصبح المدينة، قبل كل شيء وأي شيء، مرتبطة بمهرجان "كَناوة" الذي أوصلها للاعتراف بموروثها تراثا إنسانيا عالميا من طرف "اليونسكو".
"تيلكيل عربي" يواكب، قبل يومين من انطلاق مهرجان "كَناوة" موسيقى العالم في دورته الـ24 بالصويرة، كواليس الاستعدادات لما يصفه المنظمون بـ"العودة الكبرى للمهرجان"، بعد توقف بسبب جائحة "كورونا"، ودورة السنة الماضية التي كانت مجرد بروفا لهذه السنة.
الإنطلاقة ستكون يوم الخميس 22 يونيو الجاري، وقبله كل الصويرة تستعد لإعادة شحن بطاقة تعريفها العالمية
العودة الكبرى
بأحد فنادق المدينة العتيقة للصويرة، جالس "تيلكيل عربي"، يوم أمس الاثنين، عبد سلام عليكان، رئيس جمعية "يرما كَناوة"، التي تنتج وتنظم المهرجان، بشراكة مع شركة "A3" للتواصل.
وكشف المعلم عليكان أن "الدورة الحالية ستكون استثنائية، ومن المنتظر أن تستقطب رقما قياسيا من الجماهير المغربية والأجنبية".
وأضاف: "سيكون للجمهور موعد مع 35 مجموعة كَناوية، بالإضافة إلى 15 معلم آخرين، فيما لم يتجاوز حضور المجموعات في الدورات السابقة 23 مجموعة".
وأرجع المعلم عليكان هذا الزخم لاعتراف "اليونسكو" بـ"كَناوة" تراثا إنسانيا عالميا، بالإضافة إلى ما وصفه بـ"الملحمة التلفزية"، التي أشرفت على نقلها الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة (SNRT)، مباشرة، من مدينة الصويرة، وحملت عنوان "السهرة الكبرى للاحتفاء بفن كَناوة".
"اعتراف "اليونسكو" والسهرة الكبرى، للعام 2021، بالإضافة إلى تأسيس فروع جديدة لجمعية "يرما كَناوة"، والمجهود الذي تقوم به مديرة ومنتجة المهرجان، نائلة التازي، رفقة طاقمها، عوامل رفعت أكثر من قيمة هذا المحفل العالمي"، يقول المعلم عليكان، الذي يشغل أيضا، مهمة المدير الفني للمهرجان.
وتابع: "سيكون للجمهور موعد مع مجموعات غنائية عالمية، وأخرى وطنية ببعد عالمي، كما سيكتشف مجموعات جديدة ستصعد منصات المهرجان، لأول مرة؛ منها مجموعات أمازيغية وأخرى للفن الشعبي. المهرجان هو موسيقى "كَناوة"، لكنه منفتح دائما على التعريف بباقي الأنواع الموسيقية والطوائف".
استعدادات لوجستيكية.. ورش بمئات مناصب الشغل
"ما إن ينتهي المهرجان، حتى نبدأ في الاستعداد للدورة المقبلة. يأخذ منا التقييم، والوقوف على مكامن قوتنا، وأين أخطأنا، قرابة شهرين، ثم نعيد تدوير عجلة التحضير، انطلاقا من شهر شتنبر"، توضح المنسقة العامة للمهرجان، غزلان أندلس، في حديث مع "تيلكيل عربي"، اليوم الثلاثاء.
وأضافت أندلس: "لهذه الدورة، تم تحضير منصتين يعرفهما جمهور المهرجان، منذ سنوات؛ منصة ساحة مولاي الحسن، ومنصة الشاطئ، بالإضافة إلى السهرات الخاصة التي ستنظم، بكل من الزاوية، وبيت الذاكرة، وبرج باب مراكش، ودار الصويري".
وعن الكتيبة التي تشتغل على جميع جوانب الإعداد للمهرجان، وتنظيمه، وإنتاجه، والتنسيق، والتسويق له، صرحت منسقته العامة أن "جمعية "إرما كَناوة" وشركة "A3" للتواصل تعبئان 120 من المتخصصات والمتخصصين في مختلف المجالات".
وعن فرص الشغل التي يخلقها المهرجان في الصويرة، أوضحت المتحدثة ذاتها، أنه "يتم خلق أكثر من 200 فرصة شغل مباشرة مع المهرجان، بالإضافة إلى فرص أخرى غير مباشرة، وكلها تهم، حصريا، بنات وأبناء المدينة، فضلا عن فرص أخرى للشغل والتدريب، خاصة في المجالات التقنية، والموجهة بالأساس للشابات والشباب الذين يعول عليهن وعليهم في المستقبل، لضمان استمرارية المهرجان".
وقالت غزلان أندلس إنهم يقومون يوميا بعقد اجتماعات مع السلطات المحلية والأمن والدرك، للوقوف على كل كبيرة وصغيرة تهم انطلاق المهرجان، في أحسن الظروف، وتأمين حضور جمهوره.
كم تربح المدينة من المهرجان؟
أظهرت دراسة أنجزت، قبل سنوات، حول ما تربحه مدينة الصويرة من مهرجان "كَناوة"، أن كل درهم واحد يصرف يعود بربح صاف قيمته 7 دراهم.
وفي هذا السياق، سبق وصرحت مديرته ومنتجته، نائلة التازي، خلال الندوة الصحفية لإعلان برنامج الدورة الحالية، أن "الميزانية المرصودة للمهرجان، في دورة 2023، هي 20 مليون درهم"، مفسرة ذلك بـ"المستوى العالي الذي وصل إليه، والذي يتطلب إمكانيات كبيرة".
وقالت التازي إن "الصويرة تستفيد جدا من المهرجان، الذي يعود في صيغته الاعتيادية، من 22 إلى 24 يونيو الجاري، لكنها لا تدعمه"، مؤكدة بالمقابل، أن "هذه المدينة هي المكان الحقيقي لإقامته؛ كون روح "كَناوة" مرتبطة بروحها".
ملاحظة غياب دعم مادي محلي يليق بحجم المهرجان ومكاسبه بالنسبة للصويرة، أكدها رئيس جمعية "إرما كَناوة"، عبد السلام عليكان، في حديثه لـ"تيلكيل عربي"، ولخص ذلك بالقول: "الدعم شحيح".
من جهتها، كشفت المنسقة العامة للمهرجان، غزلال أندلس، لـ"تيلكيل عربي"، أن "المنظمين وحدهم حجزوا هذه السنة 550 غرفة فندقية".
وفي السياق ذاته، صرح عبد الفتاح بشابلا، مالك رياض "L'Authentique"، بمركز المدينة العتيقة للصويرة، أنه "بدون مبالغة، خلال فترة المهرجان، تبلغ نسبة الملأ عندنا 300 في المائة، ونبحث دائما عن حلول بديلة، لإرضاء زبنائنا من الداخل والخارج".
وأوضح المستثمر في قطاع الفندقة بالمدينة أن "قوة مهرجان "كَناوة" مقارنة بباقي المهرجانات التي تنظم، سواء في الصويرة أو غيرها من المدن، هي الإشعاع الذي حققها للصويرة، وشهرتها به لدى دول العالم".
ولخص ذلك بالقول: "مهرجان "كَناوة" كيدير لينا إشهار عالمي مستمر، ويعود بالنفع على المدينة على طول السنة".
اعتراف "اليونسكو".. القيمة المضافة
"ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة"، عبارة صدح بها المعلم عبد السلام عليكان، حين سأله "تيلكيل عربي" عن كواليس الاعتراف بفن "كَناوة" تراثا إنسانيا عالميا.
وفسرها بالقول: "عندما صعدت مجموعتنا "طيور كَناوة" أمام لجنة "اليونسكو"، أدينا عرضا مدته 3 دقائق. رهيب حجم التفاعل والتصفيق الذي قوبلنا به من طرفهم، مرت بعدنا وقبلنا مجموعات فنية وغنائية كثيرة، لم تحرك "الساكن"، كما حركته "كَناوة" فيهم".
واعتبرت المنسقة العامة للمهرجان، غزلان أندلس، أن "الاعتراف الأممي رفع من حجم المسؤولية والتحدي. لذلك، هناك استعداد استثنائي هذه السنة، وسوف يستمر خلال الدورات القادمة".
المعلم عليكان ربط بين الاعتراف والزخم الذي حققته جمعيتهم على مستوى الجهات؛ حيث أصبحت تتوفر "إرما كَنازة" على فروع في جهات طنجة-تطوان-الحسيمة، والرباط-سلا-القنيطرة، وفاس-مكناس، ومراكش-آسفي، بالإضافة إلى أكادير، وزاكَورة، وطبعا الصويرة.
في المقابل، شدد رئيس الجمعية على أن هذا الاعتراف يجب أن يواكبه صون الذاكرة الجماعية لتراث وفن "كَناوة" بالمغرب.
وقال في هذا السياق: "يجب أن نشيد متحفا وطنيا لهذا التراث، وأن نفتح مدارس متخصصة به. لا يعقل أن تتوفر دول؛ مثل البرازيل مثلا، على مدارس عالمية لرقصاتها المشهورة، تستقطب عشاقها من مختلف بقاع العالم، ونحن لا نتوفر على مثلها. زرت البرازيل، عام 2017، واستضافنا هناك أنا والمعلم حميد القصري الفنان كارلينيوس براون، ومن بين ما تساءل عنها هو وجود مدارس لفن "كَناوة" عندنا في المغرب".
"الساحة الكَناوية فقدت عددا كبيرا من المعلمين الذين رحلوا، دون تدوين إرثهم، أو تثمين ما تركوه خلفهم من كنوز. يجب أن نتدارك الأمر سريعا، لأن الكل اليوم، بعد الاعتراف الأممي بأننا نمثل تراثا إنسانيا عالميا، يراقبون عن كثب تطورنا في هذا المجال"، بهذه الجمل يختم رئيس جمعية "يرما كَناوة" حديثه مع "تيلكيل عربي".
موسيقى ونقاش الهويات المتعددة
بالموازاة مع العروض الفنية والموسيقية، أسس منظمو المهرجان فضاء للنقاش بين مختلف الفاعلين، في قضايا تهم السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة.
وحسب المنظمين، سيطرح منتدى مهرجان "كَناوة" وموسيقى العالم لحقوق الإنسان هذه السنة، في دورته العاشرة، يومي 23 و24 يونيو الجاري، موضوع "الهويات المتعددة وسؤال الانتماء".
وأورد المنظمون في تقديمهم للمنتدى هذه الدورة، أنه "في الوقت الذي تخترق فيه النقاشات الهوياتية المجتمعات، وتشكل، في بعض الأحيان، عنصر تفرقة داخلها، يعمل المنتدى على لَمِّ نخبة من الأكاديميين والمثقفين والمتدخلين الجمعويين والفنانين، للتداول حول المسألة، من خلال تنظيم أربع موائد مستديرة، متبوعة بنقاش مفتوح مع الحضور والمهتمين".
ويطرح المنتدى تساؤلات حول: هل التوتر الهوياتي ظاهرة كونية؟ ما يفيدنا به التاريخ حول التنقلات والهجرات البشرية؟ وهل هناك في عالمنا الحالي ديناميكيات هوياتية هادئة ورشيدة؟ وما دلالات مظاهر القلق التي تعم العالم وتسيطر على طرق تفكيرنا؟