قال عبد الله ولد محمدي، الكاتب المتخصص في الشؤون الإفريقية، إن "تأسيس "دولة" ليس بالأمر السهل، لأنه أكثر من مجرد إلقاء خطاب أو كتابة بيان، كما أنه أكبر من توزيع قطع سلاحٍ على حفنة من المقاتلين المتحمسين أو المرتزقة المتعطشين، لأن ذلك يمكنُ وصفه بأنه تأسيس "حركة انفصالية"، ولكنه ليس بأي حالٍ من الأحوال تأسيسَ "دولة"، وشتان ما بين الفكرتين، لأن الدولة في النهاية هي فكرة قائمة على "الجمع"، ومناقضة للفصل والتفريق".
وأضاف في كلمة ألقاها بالنيابة عنه صديق له في ندوة "الحركات الانفصالية والمنظمات الإقليمية في أفريقيا"، صباح اليوم الإثنين، وذلك في إطار جامعة المعتمد إبن عباد المفتوحة، إحدى أنشطة موسم أصيلة الثقافي الدولي الثالث والأربعون، أن "التباين بين الفكرتين واضح في النتائج المترتبة على أغلب الحركات الانفصالية في أفريقيا، فالمشاريع التي قادت هذه الحركات كانت دومًا فاشلة، وذلك ما شاهدناه في جنوب السودان بشكل واضح وجلي، لأن تأسيس الدولة يمكنُ وصفه بأنه عملية تاريخية معقدة، ومسار ثقافي مركب، وحراكٌ اجتماعي بطيء ومتراكم، حتى أن أحد المبدعين قال إن تأسيس الدولة -أي دولة- كثيرًا ما يكون عمليةً "غير واعية".
وتابع: "تلك هي الخلاصة التي يمكنُ الخروج بها من العقود التي أعقبت دخول نموذج "الدولة الوطنية" إلى غرب القارة الأفريقية، حين قرر الأوروبيون منح "استقلال شكلي" لدول تحملُ معها الكثير من التناقضات، وأسئلة لا متناهية عالقة حول الهوية والشرعية وآلية الحكم، كما أنَّ أغلب هذه الدول كان يفتقد للشرعية التاريخية، ولا يملك أي تقاليد بيروقراطية".
وأوضح المتحدث ذاته، أنه "حينها بدأت تبرزُ حركات انفصالية ظلت دومًا تقتاتُ على هذه التناقضات، وتستغل المناطق الرخوة والهشة لتنمو وتتوسع، وكان فشلُ نموذج "الدولة الوطنية" في أغلب الأوقات، أكبر محفز لفكرة "الانفصال"، وهكذا ظل الانفصاليون يعالجون فشل "الدولة" بفشل أكبر منه قادم من الهامش، يحملُ لواءه أنصاف مثقفين لا يملكون أي خبرة سياسية، ولا يحملون أي فكرة، ويستسهلون عملية تأسيس الدولة".
تحدي الحركات الانفصالية
وشدد على أن "الحركات الانفصالية التي شاهدنا في أغلب دول غرب أفريقيا، تتشابه في الكثير من التفاصيل، ولسنا هنا في مقام الإسهاب في هذه التفاصيل أو عقد مقارنة بينها، وإنما يمكننا التركيز على المصير المتشابه لهذه الحركات الانفصالية، وهو مصير يلامس مستقبل المنطقة، ويعد أكبر تحدٍ جيو استراتيجي تواجهه منطقتي غرب أفريقيا والمغرب العربي".
وأورد أن "النماذج كثيرة على حركات انفصالية تمركزت في مناطق خارج سيطرة الدولة، وبدأت خطابها بالوعود الوردية الكبيرة لبعض الناس المطحونين، تربي عندهم الوهم الكبير بتأسيس "دولة" تجسد أحلامهم، ولكن هذه الحركات الانفصالية تحولت في النهاية إلى بؤر تسيطر عليها شبكات تهريب السلاح والمخدرات والبشر، ومؤخرًا الجماعات الإسلامية المسلحة المتطرفة، سواء تنظيم "القاعدة" أو "داعش"".
"الحركات الانفصالية فتحت على نيجيريا "باب جهنم"
وأبرز أنه "على سبيل المثال؛ في حوض بحيرة تشاد، شمال شرقي نيجيريا، ظهرت قبل عقود حركات انفصالية تعلن التمرد على الدولة الفيدرالية، وتعد سكان الشمال الفقير من المسلمين، بإعادة إحياء الإمارات الإسلامية، وإنهاء سيطرة الجنوب المسيحي، وبالفعل كَبُر الوهم وتغلغلت هذه الحركات الانفصالية في الغابات والأحراش الواقعة خارج دائرة سلطة الدولة المركزية".
وأشار إلى أنه "مع الوقت ذابت الأحلام الوردية وتلاشت الوعود، وبقي الكثير من السلاح وروح التمرد والغضب، وهو ما أسفر في النهاية عن ظهور جماعة "بوكو حرام" التي توصف بأنها التنظيم الأكثر دموية وهمجية في تاريخ أفريقيا؛ تنظيم يأخذ من القتل وسيلة لصناعة الرعب، ويختطف الفتيات ليشبع بهن رغبات مقاتليه، ويفجر المساجد والكنائس والأسواق والمدارس والمستشفيات".
وأكد أن "الحركات الانفصالية فتحت على نيجيريا "باب جهنم" الذي خرج منه غول "بوكو حرام"، واليوم تتحالف دول المنطقة وتصرف مليارات الدولار لقتل هذا الغول، وإغلاق "باب الجحيم"، ولكنها مهمة تبدو شبه مستحيلة، فأبواب جهنم حين تُفتح، سيكون إغلاقها صعبًا إن لم يكُن مستحيلًا".
شبكات إجرام عالمية
وأردف قائلا: "نفس الشيء شاهدناه في دول عديدة في غرب القارة الأفريقية، من غينيا بيساو وليبيريا وصولًا إلى كوت ديفوار، حين تحولت حركات التمرد السياسي، إلى شبكات لتهريب السلاح والمخدرات، بل إنها تحولت من حركات تحملُ مشروعًا سياسيًا انفصاليًا في غاية المحلية، إلى حلقة ضمن شبكات إجرامٍ عالمية، يمتد نشاطها من أمريكا اللاتينية إلى أوروبا وآسيا، وأصبحت هذه الحركات خطرًا حقيقيًا على الأمن في شبه المنطقة، وحتى العالم".
ولفت إلى أنه "من المفارقات أن بعض هذه الحركات الانفصالية، في رحلة الصراع المسلح الذي خاضته ضد الدولة المركزية في غرب أفريقيا، غيرت أهدافها أكثر من مرة، وفي النهاية حين نجح بعضها في السيطرة على الحكم، كانت قد تلاشت كل الأهداف الوردية الأولى التي تأسست من أجلها الحركة، والتي انطلقت في سبيلها أول رصاصة، لقد مات المشروع الأول وانكشف المشروع الحقيقي: السلطة والنفوذ".
ونبه إلى أنه "وفق هذا النموذج، كثيرًا ما تحولت الدولة تحت حكم الانفصاليين إلى ما يشبه "الحركة"، وهنا ظهر ما يمكن تسميته بأنه "الدولة المجرمة" في غرب أفريقيا، التي يتاجر قادتها ومسؤولوها في المخدرات والسلاح، وتسيد فيها الفساد كل شيء، لقد كانت "الحركات الانفصالية" مطية الفساد الأولى".
جبهة البوليساريو والجماعات الإرهابية
واستطرد، أنه "غير بعيد منَّا، لدينا نموذج "جبهة البوليساريو" التي تتخذ من منطقة مهجورة بين المغرب والجزائر وموريتانيا، بؤرة لتربية الوهم وممارسة الكثير من الأنشطة الإجرامية، لأن هذه الحركة المسلحة الانفصالية لا تختلف في أي شيء عن مثيلاتها في خليج غينيا وغرب أفريقيا؛ حين بدأت حركة تعد بالكثير من الأهداف الوردية، ثم تلاشى كل ذلك، وأصبحت حركة منخرطة في شبكة إجرام دولية واسعة".
وركز على أنه "لا أعتقد أنه يخفى على أحد العلاقة الوطيدة التي تربط جبهة البوليساريو بالجماعات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، والتداخل الكبير بين مقاتلي الطرفين، وكيف كانت الجبهة لسنوات عديدة قاعدة خلفية لإمارة الصحراء في شمال مالي، تزودها بالوقود والسلاح والمقاتلين عبر الحدود مع الجزائر".
وأكد على أن "عددًا من مقاتلي جبهة البوليساريو تقلدوا مناصب قيادية في تنظيم القاعدة، قبل أن يسيطر التنظيم على شمال مالي عام 2012، وحتى أن عدنان أبو الوليد الصحراوي، وهو مقاتل في جبهة البوليساريو، كان مهندس دخول تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" إلى منطقة الساحل".
وأشار إلى أنه "يمكننا أن نفتحَ قوسًا مهمًا لما جرى في شمال مالي، الذي ظل مرتعًا للكثير من الحركات الانفصالية منذ ستينيات القرن الماضي، ولكن مشروعها الانفصالي لم يزد على أنه فتح المنطقة أمام شبكات تهريب المخدرات والسلاح والبشر".
خطر الانفصال المحدق
وأورد أن ""الحركة الوطنية لتحرير أزواد" كانت هي آخر حركات التمرد التي تأسست في شمال مالي، تأسست عام 2011، وأطلقت أول رصاصة تمرد ضد الحكومة المركزية في باماكو، يناير 2012، ليندلع بذلك تمرد مسلح فتح الباب على مصراعيه أمام القاعدة لتسيطر على ثلثي مساحة البلاد، وتزحف بعد ذلك في اتجاه العاصمة باماكو، وهو ما أسفر في النهاية عن تدخل عسكري دولي حول المنطقة إلى ساحة صراع دولي ما يزال مستمرًا حتى اليوم، ويبدو أنه ما يزال في بدايته".
وشدد على أن "سرد تجارب الحركات الانفصالية في أفريقيا يحتاج الكثير من الوقت، لأنه لا نكاد نجد أن هنالك دولة سلمت من هذا الخطر المحدق، في تشاد والنيجر والكاميرون والسنغال، وهي متشابهة في الكثير من التفاصيل رغم السياق المختلف من دولة لأخرى".
وخلُص إلى أن "بذور نمو الحركات الانفصالية ما تزال موجودة في منطقة غرب أفريقيا، وما لم يتم القضاء على هذه البذور في المهد، سيبقى الخطر ماثلًا ومحدقًا، وربما يمكننا القول إن أفضل طريقة للقضاء على هذه البذور هو "التنمية"، ولا شيء آخر غير "التنمية"، وأعتقدُ أن المغرب فهم ذلك منذ عدة عقود، حين رفع في الصحراء شعار التنمية، لمواجهة ديماغوجية الانفصال".