وحده الله يعلم كيف كان أفلاطون سيشعر لو رأى بأم عينه وسمع بطبل أذنه ما وقع ويقع للفلسفة، وقد كَتب المسكينذات يوم على بوابة أكاديميته التي كانت تُدرسها،عبارته المأثورة:que nul n’entre ici s’il n’est géomètreوقد آثرنا ترجمتها بعبارة: لا يلج هذا الحرم إلا من صفا ذهنه رياضيا ـ نسبة إلى الرياضيات وليس الرياضة ـ وكان الله في عون الأستاذ عز الدين الحبابي الذي قرر إدخال مبادئ الفلسفة الشخصانية إلى المغرب، غداة تأثرهبإيمانويل مونيي وجاك ماريتان، وتدريسها لعموم طلبة الفلسفة وكل مهتم بهذا الأمر، إلا أنه ثمة انقلاب سيحصل على حين غرة خلال السنين الأخيرة، خاصة وأن العدو الأول للدرس الفلسفي هو الحس المشترك، وذهنية المغاربة التي تكاد لا تستقيم وهذا التفكير الضارب في أعماق التاريخ.
وأما مناسبة هذا الكلام، فإنها تعود إلى الامتحان الوطني للفلسفة،وما رافقه من مجموع الارتسامات والانطباعات التي وسمت المهتمين بذلك، مدرسين كانوا أو متعلمين. هذا دون الحديث عن المتربصين بالمتعلمين أمام أبواب المؤسسات، والذين ما إن يخرج أول المغادرين منهم، حتى يجد نفسه أمام الميكروفونات التي تطمع في الحصول على تصريح يغلب عليه طابع البلادة والسخرية والغباء وكل ما يمت للتفاهة بصلة،طمعا في الحصول على أكبر نسبة من المشاهدين الذين لا يقلون تفاهة عن صاحب السؤال والمجيب عليه، في غياب تام لوزارتي الداخلية والعدل التي يجب ان تضرب بقوة على هؤلاء الكائنات الذين يشوهون صورة البلد، ويقدمون تقريرا مجانيا على طبق من ذهب لكل مهتم بذلك.
إن المشكلة التي يكاد يُجمع عليها الكل في هذا السياق، هو الاعتماد المطلق على مجزوءة الوضع البشري، لدرجة أن أولياء الأمور بدورهم باتوا يتمنون سرا وعلانية أن يتم اختبار أبنائهم في ذلك! لكن المفارقة التي أود الإشارة إليها، تكمن في مجموعة من النقط:
ـ أولا: لو عدنا إلى امتحان الفلسفة لهذه الدورة، سنجد أنه في المتناول، وأنه يخاطب عقول المتعلمين وإبداعهم والبناء الإشكالي لديهم، بدل أن يخاطب فيهم الحفظ، الذي لا ولن يمت للفلسفة بصلة، وعليه، فهل يمكن بناء العقول بالحفظ، بينما تتغذى الفلسفة بالفكر النقدي والفكرة ونقيضها..؟
ـ ثانيا: كيف يعقل أن ينفر المتعلمون المنتمون إلى الشعب العلمية من امتحان فلسفي/علمي محض خاصة على مستوى السؤال والنص؟ مع العلم أن للفلسفة حظا لا يستهان به داخل الإطار العلمي الذي لن يكتب له التقدم دون أن يكون عقلا علميا روحه فلسفية. لكن ما الذي ننتظره من أجيال تحفظ العلاقات الفيزيائية والرياضية بدل فهمها! تحفظ قوانين ميندل وغاليلي ونيوتن دون أن تكلف نفسها عناء ومتعة التدبُّر فيها.
ثالثا: الوضع البشري أو ما أطلقت عليه المفكرة الألمانية حنا أرندت شرط الوجود البشري la condition humaine يتقاطع في العديد من النقط مع الشخصانية التي ترمي إلى مساءلة الذات سواء في علاقتها مع نفسها أو مع الآخرين، سواء من الناحية الأخلاقية أو القانونية أو الوجدانية، وهذا هو صلب الدرس الأول الذي يسعى بخصوص كفاياته الاستراتيجية إلى بناء الإنسان المتصالح مع نفسه، الذي يستحضر القيم في تعامله مع الغير من خلال احترام كرامة الأفراد ومعاملتهم كغاية وليس كوسيلة، مثلما تحددت في كتاب كانط الموسوم بعنوان: "أسس ميتافيزيقا الأخلاق". وتكريس قوة الإرادة لديه بما أنه الكائن الوحيد القادر على ربط الوعي بالإرادة والحرية والاختيار والمسؤولية. ناهيك عن انفتاحه على الآخرين الذين يتشارك معهم الفضاء العمومي الذي يرسم خطوط التماس والتحفظ والانفتاح والاحترام والقبول... زيادة على إعادة التفكير في العلاقة مع الغير كآخر يتشارك معنا الحلم والأمل والمصير والعاطفة...
حينما نجد كل هذا الالتواء والالتفاف حول الوضع البشري من طرف المتعلمين، فالظاهربقوة المنطق أنه ينبغياعتباره ميلا تفرضه قوة الميل، لكنه وللأسف ميل تفرضه دواعي الحفظ، والدليل أننا لسنا من أمر الشخصانية ولا الفضاء العمومي ولا العلاقة مع الآخرين في شيء. ومن حسنات الصدف أن المركز المغربي للمواطنة دق ناقوس الخطر خلال تقريره الأخير حول البنية الذهنية للمغاربة الذين تنقصهم ثقافة الذوق والتهذُّب واحترام الآخر وخصوصياته، وتشرُّب روح الفضاء العمومي، وغياب ثقافة المحبة والتضامن والالتزام في العمل والقيام بالواجب... الغريب في الأمر أن الذين شاركوا في استطلاع الرأي هذا مغاربة درسوا الوضع البشري! ولو سألنا كل شباب اليوم الذين تمنوا ذات يوم أن يُمتحنوا في الوضع البشري لكانت النتيجة واحدة، وهي أن ذهنية وعقلية المغاربة بعيدة كل البعد عن التمدّن والتحضُّر وقبول الغير، والإيمان بأن الفضاء العمومي يتسع للكل ولا أحد.. لهذا، فكيف يُعقل أننا نطلب ونفهم درسا فلسفيا يخاطب عقولنا، دون أن يتجسَّد هذا الأمر على مستوى سلوكنا غير المهذب وغير المُتمدِّن؟الظاهر أنه قد آن الأوان لترتيب الأولويات، وهي بناء الفرد ذهنيا مع ما يكتنف ذلك من صعوبات تتجلى في جيوب المقاومة، والتي لن تكون سوى الفئة التي نستهدف الرقي بذوقها..! أو لعل الحل الأمثل يتجلى في الإيمان بأن الفلسفة لم توجد للعامة، وإنما لمن هم الأولى باستحقاقها، فإذا أردنا تحويلها إلى ثقافة شعبية مستهلكة بائرة، آنذاك نكون قد حكمنا عليها بالانهيار، وندمنا ندما شديدا على اليوم الذي ولد فيه أفلاطون، وقلنا بكل أسف إن الأستاذ الحبابي أخطأ التقدير حينما حمل الشخصانية إلى المغرب كي يضفي طابع التوازن على المجتمع المغربي بين ما لنا وما علينا، بينما كان الأجدر أن يكمل مشواره هناك.