ليس أفلاطون فيلسوفا وحسب، بل إنه يشكل لحظة جد مفصلية في تاريخ الفكر الإنساني، سنقول إن الأفلاطونية من هذا المنطلق لعبت دورا كبيرا ومؤسسا لنمط جديد من التفكير لازال قائما لحد الساعة رغم كبريات السهام الموجهة إليه سواء الداخلية مع أرسطو أو الأفلاطونية الجديدة، أو الخارجية خاصة مع نيتشه.. من ثمة أمكننا التساؤل عما هي أسس الأفلاطونية؟ كيف كانت نظرتها للعالم والإنسان؟ وبأي معنى شكلت منعطفا في تاريخ التفكير البشري.
ربما لن نفصل القول في حياة أفلاطون، ذلك الفيلسوف الشهير المنحدر من أسرة أثينية معروفة بانتمائها الأرستقراطي، خاصة وأن أمر حياته شأن متاح أمام الجميع لتوفر الكتابات المهتمة بها.
لذا سندخل مباشرة في بيت القصيد مركزين طبعا على فلسفته وأثرها. وهي للإشارة تميزت بالعديد من الخصائص لهل أهمها الطريقة التي كان يكتب بها، طريقة لم تكن تعتمد على الكتابة الشذرية ولا على النصوص المسترسلة، وإنما كانت معروفة بالمحاورات، تلك المحاورات التي كانت في الغالب الأعم تتغنى ببطل قاهر للجميع ألا وهو سقراط.
محاورات لا تخرج عن إطار الأسئلة المحرجة التي يصوغها، كما لا تقفز عن أجوبته القوية التي يعطيها بفضل بناءه التوليدي الذي اشتهر به سقراط أفلاطون le Socrate de Platon أما الخاصية الثانية التي عُرفت بها فلسفة أفلاطون فهي تمكنه من إثارة عديد المواضيع ومقارعتها، من السياسة إلى الأخلاق مرورا بالمعرفة والفن والدين والرياضيات.. الأمر الذي سينتج له العديد من المفاهيم التي بنت صرح الأفلاطونية من قبيل عالم المثل الخالد، وكيف أن المدينة الدولة أو المدينة الفاضلة، يجب أن يكون على رأسها فيلسوف.. إضافة إلى نظرته للحب وتقسيمه الشهير لأنفس الإنسان الشهوية والغضبية والعاقلة وما على غير ذلك كثير.
أسس أفلاطون سنة 387 قبل الميلاد مدرسة أطلق عليها اسم الأكاديمية، وهي للإشارة بنيت بجانب قبر المحارب الشهير أكاديموس لتأخذ اسمها منه.
أوكلت للأكاديمية أولا حل معضلة الجذر التربيعي الذي ظهر مع أحد تلاميذ فيتاغورس، لهذا قد لا نتفاجأ عندما نرى أن أفلاطون كتب على بوابتها عبارته الشهيرة: "لا يدخلها من لم يكن رياضيا." أما الدافع الثاني الذي من خلاله تأسست الأكاديمية فإنه يعود إلى مسألة البحث في الشؤون العملية للأفراد، أي تلك التي تتعلق بالتدبير السياسي والأخلاقي.
ستتمكن الأكاديمية بطبيعة الحال من أن تؤثر على مجال الممارسة السياسية من خلال سعيها إلى تكوين حكام المستقبل، مثلما عملت دوما على تكوين أعلام كبار على رأسهم أرسطوطاليس إضافة إلى إيشين وإبيريد وكزينقراط.. ثم ستستمر على هذه الشاكلة إلى أن تم تدميرها سنة 86 قبل الميلاد من طرف الدكتاتور الروماني صولا، تاركة بذلك إرثا ثقيلا لا يستهان به.
يصنف أغلب الدارسين للأفلاطونية أربع مراحل أساسية عرفتها هذه المدرسة، الأولى وتعرف بمرحلة الشباب وقد تميزت محاوراتها بالاشتغال على المجال الأخلاقي وأبرز مفاهيمه على غرار مفهوم الشجاعة والفضيلة، مع التمركز المطلق على شخصية سقراط، ولعل أهم المحاورات الواردة في هذا الباب نجد هيبياس بجزأيها وبروتاغوراس.
المرحلة الثانية في فكر أفلاطون أصبحت المحاورات فيها تتميز بالطول والتفصيل، حيث عمل فيها أفلاطون على عرض فلسفته الخاصة ولاشك ان أهم مؤلفاته في هذا الباب نجد محاورات جورجياس ومرافعة سقراط ومينون وقريطون.
عرفت المرحلة الرابعة من الأفلاطونية بمرحلة النضج وقد عرض فيها أفلاطون صلب فلسفته وتحديدا موضوع الروح والإيدوس أي الفكرة والكوسموس.. لتتوج بعدئذ بمحاورات مهمة من قبيل المأدبة وفيدروس وفيدون، إلا أن أهم كتاب نورده بخصوص هذا الشأن هو كتابع العمدة الجمهورية.
وأخيرا فقد تميزت المرحلة الرابعة بالتوفيق بين جل المواضيع المؤسسة للمراحل السابقة وخاصة المرحلتين الثانية والثالثة، لتنتج لنا مؤلفات مهمة على غرار طيماوس والسفسطائي وتيتاتوس.
تميزت فلسفة أفلاطون بادئ ذي بدء بوضع الأصبع على أعقد المفاهيم الفلسفية إلا أن أبرزها ثلاثة مفاهيم مؤسسة للتفكير الإنساني لحظتئذ وهي على التوالي الحق والخير والجمال.
والحال أن المدخل لفهمها يدفعنا أولا إلى البحث عن ماهيتهما، سنتساءل قائلين: ما الحق وما الخير وما الجمال؟ للجواب على هذه الأسئلة، سنجد أنفسنا وجها لوجه أمام ضرورة التعرف على نظرية المعرفة لدى أفلاطون، إضافة إلى وقوفنا على تصوره الكوسمولوجي والسيكولوجي الذي بنى صرحا لا يستهان به سواء كنا متفقين أو معارضين للأفلاطونية. ومن ثمة سنعمل في الحلقة المقبلة على التفصيل في فلسفة أفلاطون، ثم شرح الأسباب التي اعتبرنا من خلالها الأفلاطونية انقلابا مأساويا في التفكير الإنساني.