تنطلق الفلسفة الأفلاطونية من الفكرة باعتبارها جوهر كل الموجودات، وهي محاولة مقصودة منه لتحوير طريقة التفلسف لدى الفلاسفة الطبيعيين الذين أوردناهم سابقا، لم تعد الفلسفة بحثا في أصل الأشياء، لأن كل الأشياء تعود للفكرة، أي تعود لشيء يحتوي الطبيعة دون أن تحتويه، وعيب الفلسفة مع من سبقوه من الفلاسفة ـ حسب أفلاطون طبعا ـ هو أنهم أرجعوا أصل الأشياء لشيء مادي، مشكلة المادي أنه فان وفاسد، له بداية ونهاية ثم إنه لا يحمل الجوهر بقدر ما أنه شكل لصورة الشيء.
وبعبارة أدق فإن أفلاطون يقسم عالمنا إلى عالمين اثنين وهما عالم الفكرة وعالم المادة، المادة صماء عمياء وفارغة بدون الفكرة، بل أكثر من ذلك إنها غير موجودة بدونها ـ الفكرة ـ إنها انعكاس للفكرة وقد قررت أن تتجلى في العلن، الفكرة ملخصة وجامعة مانعة لكل الأنواع رغم اختلافها.
لنأخذ مثلا فكرة الإنسان، سنقول أن زيدا وعمرو وفلان وعلان يشتركون برمتهم في جوهر وحيد ألا وهو فكرة الإنسان، ولكن لا أحد منهم ينفرد بها دون غيره من الآخرين.
نفس الأمر ينطبق مثلا على المثلث، كل المثلثات مهما تعدد حجمها وشكلها إلى ما لانهاية من المثلثات، فإنها تعود إلى الأصل، أي إلى المثلث كفكرة، وهي فكرة لا ولن تقبل التجزيئ. وبعبارة أدق فإن كل المثلثات تشترك في نفس الفكرة، لكن لا أحد من المثلثات يمثل فكرة المثلث دون غيره من المثلثات الأخرى. لذا نرى على المستوى الأولي أن الفكرة تسبق المادة، وما هذا الأخيرة سوى تقليد للأولى أي للفكرة، لنأخذ نجارا أراد صنع كرسي، يرى أفلاطون في هذا الصدد أن الكرسي كمادة لا يحمل حقيقة الكرسي كفكرة، لان النجار كان يملك مسبقا فكرة الكرسي التي جعلته يصنعه، وهكذا نستنتج أولا أن فكرة الكرسي تسبق الكرسي كشيء ملموس، وثانيا أن الكرسي كمادة ليس حقيقيا لأنه يحاكي ويقلد الكرسي كفكرة.
إن التقابل بين الفكرة والمادة هو في الأصل تقابل بين عالمين وهما عالم المثل أي عالم الفكرة وعالم الظلال أي عالم المادة، لكن لماذا يعلي أفلاطون من العالم الأول على حساب الثاني؟
يتميز العالم الأول بكونه عالما أبديا خالدا وثابتا، بينما يتميز الثاني بكونه عالما فانيا فاسدا ومتغيرا، العالم الأول هو عالم الأصل بينما الثاني هو عالم النسخة المشوهة، العالم الأول يتميز بكونه مطلقا عكس الثاني الذي يوسم بالنقصان. والحق أن من بين مآخذ أفلاطون على السفسطائية هو تمكنهم من نفي الحقيقة على الأشياء لسبب بسيط يكمن في أن لكل فرد منا فكرة، لكن عندما يعبر عنها يكون قد أغفل جزءا مهما منها، أما الذي يستمع إليه فإنه لا يمكن أن يفهم كل شيء بحيث يأخذ هو الآخر ما تبقى من الفكرة الناقصة، ومنه فإننا نصل إلى الاعتقاد الظني بدل الحقيقة، لأن الحقيقة لا ولن توجد بتاتا.
الأفلاطونية تضرب كل هذا عرض الحائط. إنها تؤمن بالفكرة الثابتة التي لا يمكن أن يصيبها أي تغيير، وتسلم بثبات عالم البداية أي عالم الأفكار على حساب عالم النهايات المستمرة أي عالم المادة. صحيح أنها بقيت وفية للبحث عن الأصل الذي سار على دربه الفلاسفة قبل سقراط، إلا أنه أصل ومبدأ جديد ليس من الطبيعة بشيء.
هكذا يتمكن أفلاطون لأول مرة من وضعنا أمام مستويين من العالم، المستوى الأول وهو عالم الواقع الملموس، بينما المستوى الثاني الأكثر واقعية هو عالم الأفكار أو المثل كما رأينا سلفا. لنقل تبعا لهذا الأمر أن أفلاطون ينتصر للعقل على حساب على حساب المادة، لأن هذا الأخيرة باطلة متغيرة زائفة وزائلة.
لأفلاطون قول مهم في نظرية المعرفة، فهو ينظر بداية إلى أن المعرفة تذكر والجهل نسيان، كل شيء موجود كفكرة لأن هذه الأخيرة تتميز بالخلود، أما معرفتها فإنها لا تخرج عن إطار العمل على تذكرها، والظاهر أن نظرية المعرفة لدى أفلاطون لم تخرج عن إطار تقسيمه الثنائي لعالم المادة وعالم الفكرة، أولا يمكن لروحنا أن تدرك أشياء العالم الخارجي عن طريق الجسد، لكنها تتمكن أيضا من معرفة الأفكار عن طريق التأمل، وهو للإشارة عمل ليس متاحا للجميع، في المقابل نجد أن الركون إلى المعارف التي تقدمها لنا الحواس من شأنه أن يضعنا أمام الرأي doxa وليس الحقيقة، بينما لا نصل إلى الحقيقة سوى عن طريق ممارسة فعل التفكير أي التذكر.
والواقع أن أفلاطون أعلى من شأن العلم على حساب الرأي لأن العلم بيان وبرهان وعرفان، تأمل وتدبر وتفكير، أما الرأي فإنه يقدم لنا أفكارا متنوعة مختلفة حسب الناس، مآل العلم حقيقة واحدة ووحيدة لا غبار عليها، بينما مآل الرأي تعدد وتخبط ليس إلا.
لم يتوقف أفلاطون عند هذا الأمر فقط، بل إن له قولا مهما في الكوسمولوجيا، وهو للإشارة قول مبني على التراتبية التي كان يعتمدها في كل المباحث من المنطق على الجمال مرورا بالأخلاق.
يقر في هذا الصدد أن عالمنا متكون من مملكات وهي مملكة المعادن أولا ثم مملكة النباتات ثانيا فمملكة الحيوانات وأخيرا مملكة الإنسان وهي أرقى مملكة مقارنة مع سابقاتها، لكل مملكة حدودها الخاصة حيث سيكون من غير المنطقي أن تتفوق الواحدة على الأخرى، ودليلنا على ذلك هو أننا نعتبر التصحر مثلا حالة شاذة في الطبيعة، أما مرد ذلك فإنه يعود على هجوم غريب لمملكة المعادن على مملكة النباتات وهو أمر لا تقبله التراتبية الأفلاطونية، نفس الشيء يسري على باقي الأشياء، هذا ولا شك ان التراتبية التي ارسى دعائمها أفلاطون لم تكن تراتبية خارجية بين المملكات، وإنما كانت أيضا بين نفس أنواع كل مملكة على حدة، هكذا نجد ان في مملكة الحيوانات تراتبية بين الحيوانات اللاحمة والعاشبة، مثلما يوجد تراتب يسكن مملكة الإنسان وهو تراتب يتكون من أصحاب النفس الشهوية الذين لا يخرج هدفهم في الحياة عن إشباع ملذات الجسد من أكل وجنس ولباس ومتع زائلة، وهم في ذلك أقرب إلى مملكة الحيوانات، ثم أصحاب النفس الغضبية والتي غالبا ما نجدها لدى الجنود بحيث يكون غرضهم على التوسع مهما كانت نتيجته مؤدية على الهلاك، وأخيرا يكون الإنسان ساميا إذا كان من أصحاب النفس العاقلة التي يغلب عليها التأمل والتفكير، وهو للإشارة عمل شاق ودربة طويلة غير ممنوحة للجميع.
إذا استفضنا القول في فلسفة أفلاطون فإننا قد لا ننتهي منها إلا بدراسة محكمة. أولا لأنها فلسفة جامعة مانعة اهتمت بالعديد من المعارف والمباحث، وثانيا لغزارة أفكارها والقراءات المتعددة التي شملتها، وثالثا لتأثيرها على مناح مهمة من حياة الإنسان العملية خاصة السياسة والدين والأخلاق والفن والنفس.. لذا أمكننا القول ان أفلاطون لم يكن فيلسوفا عاديا وإنما موسوعيا له من كل فن طبق.