لعل أكثر مدرسة فلسفية ـ وهنا نسميها مدرسة لمجموعة من الأسباب التي سنوردها في مقبل السطور ـ تعرضت للظلم من طرف السواد الأعظم من الناس، بل وللأسف من طرف المشتغلين في الفلسفة أيضا، هي المدرسة السفسطائية، هذا ولن نبالغ عندما نرى أنها تحولت إلى شتيمة يتفوه بها البعض عندما يناقشون شخصا وقد بين أوجه الضعف في حججهم وأفكارهم.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه إلى درجة أخرى من خلالها نجد كتابا ومؤلفين وقد استعملوا العبارة التالية: "أتمنى ألا تمارس علي السفسطة.. أو عبارة ما هذه السفسطة.. وما على غير ذلك من سوء فهم كبير للسفسطائي والسفسطائية على حد سواء. فما الأسباب التي جعلتنا ننظر للسفسطائية نظرة دونية؟ وفي المقابل من ذلك على ماذا ترتكز هذه المدرسة ومن أعاد إليها الاعتبار؟ وأخيرا ما العلاقة التي كانت تربط السفسطائية بالعقل؟
إذا عدنا لما حدث إبان ظهور اللحظة السفسطائية، سنجد أن ثمة سببين أديا إلى النظرة الدونية التي وقعت فيها السفسطائية، ولعل أولها هو موقفهم من الكتابة ـ يقال أن لبروتاغوراس كتاب بعنوان "الحقيقة" وقد أسسه بناء على قاعدته الشهيرة التي تقول إن الإنسان مقياس كل شيء ـ والحق أن هذا الموقف لم يكن نابعا من دافع عجز مستفيض وإنما رأي يعتد به، فالكتابة تحفظ المعنى والمعنى لا يجب أن يحفظ مادام الإنسان مقياس كل شيء.
إن ما أراه عين الصوب قد يراه الآخر عين الخطأ، هكذا وبدل الغيمان بالمعنى الوحيد كان من الأجدر الإيمان بالوضعية، الكتابة تقتل الوضعية لصالح المعنى فينهار بذلك المنطق الذي توجب ان يسير عليه العالم، وهو للإشارة منطق لا يجب ان يستقيم على حال.
أما ثاني الأسباب المساهمة في سوء الفهم الذي تعرضت له السفسطائية، فإنه يتجلى في الضربة الأفلاطونية لهم لدرجة المغالاة والتحامل على المبادئ الأولية التي أرسى دعائمها كل من جورجياس وبروتاغوراس وهيبياس وألسيبياد واللائحة طويلة.
ربما استغل أفلاطون موقف السفسطائية من الكتابة، الأمر الذي جعله يقول فيهم ما لم يقله مالك في الخمر. لاشك أننا عندما نعود إلى أهم المحاورات التي هاجم فيها أفلاطون السفسطائية والتي يبقى من أهمها محاورة جورجياس وبروتاغوراس والسفسطائي وتيتاتوس. سننتبه إلى أن سقراط يتحدث ويصول ويجول في الأفكار والمعاني، تبدأ المحاورة بأسئلة موجهة لسقراط، يجيب هذا الأخير، وقبيل النهاية نجد استسلاما لخصومه السفسطائيين الذين يطلبون منه إتمام ما يقوله. تنتهي المحاورة طبعا بتفوق سقراط.
وعلى النقيض من ذلك، يحكى أن المحاورة الشيقة لأفلاطون الموسومة بجورجياس، قد كتبت وجورجياس على قيد الحياة ولما تصفحها ابتسم دون أن يبدي أي تعليق، ماذا يعني هذا الأمر سوى إمكانية إضافة أفلاطون للعديد من الاحكام المبتورة عن سياقها التاريخي والإبستيمولوجي؟
يتأسس المذهب السفسطائي كما أشرنا سلفا إلى أن الإنسان هو الذي يعطي قيمة للأشياء، وليس الأشياء هي التي تحمل قيمتها في نفسها، بل إننا لن ننتهي إذا سردنا الأمثلة الواقعية التي تأتينا من كل حدب وصوب، إلا أنها تتفق على نقطة وحيدة وهي ضرورة إضفاء الطابع المتغير على الأشياء، إن ما أراه مثلا دافئا قد يراه شخص آخر باردا، وإذا حكمت على هذا الأمر بالصعوبة قد يحكم عليه شخص آخر بالبساطة.
ماذا يعني ذلك غير أن أحكامنا ليست لصيقة بما هو محكوم عليه، وإنما مرتبطة سلفا بمن يحكم وذلك بناء على حمولته المعرفية وتجربته في الحياة ونظرته للأشياء وطبيعة تعامله معها أيضا. لهذا فإن النتيجة الأساس التي يمكن بلوغها في هذا الباب تكمن في أنه لا توجد حقيقة وإنما تأويلات بلغتنا الحالية.
بل إن هذه التأويلات لا تقتصر على الأشياء وإنما تتجاوزها إلى احكامنا الأخلاقية والجمالية والقانونية، إذ أن ما أراه خيرا قد يراه الآخر شرا، أي أن المستفاد من هذا الأمر هو أنه لا يوجد ولا شر وإنما رأيا خاصا للفرد حولهما. كذلك فإن ما أجده جميلا قد يحكم عليه شخص آخر بالقبح، لهذا لا يمكن الأخذ بمبدأ الجميل في ذاته والقبيح في ذاته. نفس الشيء نجده أيضا في أحكامنا القانونية، التي طالما اختلفت باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئة المحتوية لها والخصوصيات الدينية والعقدية والثقافية والمناخية.
يقول بروتاغوراس في كتابه "الحقيقة" وتحديدا في الشذرة السادسة: "يمكن أن نطلق حكمين متناقضين حول كل الأشياء". فهل يبقى لنا من أمر نسوقه كي نقول إن هناك حقيقة وحيدة توجب الاحتفاظ بها؟ الحق أن هذا الكلام لن يجد لنفسه موطئ قدم داخل الدائرة السفسطائية المفتوحة على مصراعيها. وربما لهذا السبب أبدى أفلاطون توجسا من السفسطائية مادامت تعري الصرح الأفلاطوني القائم على ميتافيزيقا الهوية والفكرة الأصل والخير الأسمى.
إذا انهارت منظومة العقل الذي يؤمن بالمبدأ الوحيد والتأويل الوحيد من طرف السفسطائية، فقد عوضوها بشيء آخر ألا وهو الإقناع، لم تعد تهمنا حقيقة الأشياء مادامت لا تحمل في الأصل حقائقها في ذاتها، بل إن نباهتنا وحصافتنا تكمن في القدرة على الإقناع بتلك الفكرة، ليس باعتبارها حقيقة مطلقة وإنما بكونها قوية الاستدلال. ستكون الغلبة لأكثرنا إتقانا لفن الخطابة، وليس لأكثرنا ميلا لهذه الحقيقة دون سواها.
والظاهر أن كبريات العلوم العملية في يومنا هذا إنما هي قائمة ليس على حقيقة الحجة وإنما القدرة على إقناعنا بها مثل العلوم السياسية والقانونية والاقتصادية.