اهتم الفيلسوف برمنيدس على غرار مبادئ المدرسة الإيلية وما سبقوه من الفلاسفة، اهتم هو الآخر بإشكالية العالم وتفسير كثرته من أصل واحد، إلا أن له قولا مثيرا في هذا الباب مفاده أن وجودنا وجود ثابت لا حركة فيه ولا تغير، وهذا القول للإشارة من الصعب تقديمه على طبق من ذهب لأنه يحتاج لبديهة كبيرة.. لذا هل سيتمكن برمنيدس من السير قدما في هذا القول؟ وما حججه التي ابطلت فعل الحركة؟
إذا تعالمنا مع المبدأ الذي أخذ به برمنيدس ـ بخصوص إنكار الحركة ـ بطريقة مبتذلة، سنقول إن حواسنا تقدم لنا الحل حيث التغير في كل آن وحين، وما أخذه بذلك سوى لعبا باللغة والعمل على تصوير الوجود غير ما هو عليه. هذا هو القول الذي سيتبادر إلى اذهان العديد من الناس لو حكموا للوهلة الأولى على مبدأ الثبات.. سيتوسل برمنيدس من أجل فك هذا اللغز إلى سؤال المعرفة. فكيف تتم المعرفة بصفة عامة؟ رأى برمنيدس أن عالمنا عالمان وهما عالم الحواس والعقل، الأول يتميز بكونه عالما وهميا بينما الثاني هو منبع المعارف الحقيقية، الأول يضللنا ويوهمنا بينما الثاني يوقظنا من سبات الإنصياع المطلق للاعتقاد بدقة الحواس.
إلا أن هناك علاقة وطيدة بين الاثنين وهي للإشارة ضرورية من اجل ضمان طابع منطقي على العالم. يقر فيلسوفنا فكرة ترى أن العالم أشياء متنوعة ومتغيرة طبعا، والحال ان هذا التغير من صميمها وطبيعتها، لكن وراء هذا الأشياء توجد قوة وهي الكينونة ـ علما ان برمنيدس اعتبر أول من تكلم على الكينونة أو الوجود ـ قوة تتميز بخصائص فريدة كالثبات والسرمدية والأزلية والوحدة والفرادة والإطلاقية.. حيث شبهها بالكرة الكبيرة التي تحوي كل شيء، أي أن عالمنا متحرك طبعا لكنه لا يخرج عن إطار الكينونة المتميزة بالخصائص سابقة الذكر. والواقع أن ما يمكن لمسه في هذا الباب هو أن نظرته للكينونة تكاد تشبه تصور ديانات الوحي لفكرة الإله.
يقسم برمنيدس المعرفة إلى نوعين وهما المعرفة الظنية والمعرفة القطعية، المعرفة الأولى لا تخرج عن كونها آراء العامة من الناس وهي معرفة لا تستقيم على منطق مقنع وإنما تستمد اسمرارها من وهم الحواس، أما المعرفة الثانية فإن منبعها العقل وهي بالتالي تتميز بالدقة والإقناع والإطلاقية. ومنه، فلا شك أن إدراك حقيقة الوجود لن تتأتى لنا إلا بواسطة النظر العقلي وليس الحسي.
فكيف يصور لنا العقل الوجود؟ الوجود لا يمكن أن نصفه كما لا يمكن أن نعبر عنه، لكنه هو الكل المطلق الذي يحتوى كل شيء، كما أنه وجود وحيد لان القول بتعدده من شأن ان يعيدنا على الحركة وبالتالي العودة على المعرفة الحسية الساذجة، ولذا فإن وراء كل الأشياء وحركاتها وجودا وحيدا فريدا ثابتا.
لم يستطع برمنيدس الانفلات من مبدأ الثنائية الذي شكل نسق التفكير الإغريقي، من ثمة فقد بنى العالم بدوره على منطق الثنائية بين قوى كبرى ألا وهي النور والظلام، النهار والليل، الوجود والعدم.. وهو للإشارة وضع هذه الثنائية بين الوجود والعدم كي يدحض قول أنكسماندرس القائل بأن عالمنا أتى من العدم، وهذه قاعدة خاطئة حسب برمنيدس لأن جوهر الوجود كمال بينما العدم نقصان، الوجود إيجابي والعدم سلبي فكيف يمكن أن ينبعث ما هو إيجاب مما هو سالب؟ بما أننا لا يمكن أن نعرف العدم فهذا يعني انه غير موجود، أما شرط إيجاده فهو معرفته، إذا عرفناه سيتحول إلى وجود، وبما ان الأمر مستحيل فإنه غير موجود لأنه عدم.
بينما الوجود يجب بقوة المنطق أن يتميز بالثبات لان الحركة نقصان بطبيعة الحال، فهي تتحرك إما طمعا في امتلاك شيء ما وهذا يعني انها ناقصة، أو أنها تتحرك لاسترداده وهي بذلك غير كاملة، وعلى النقيض من ذلك فإن الوجود لا ثابت لأنه كامل أي أنه لا يشتهي امتلاك شيء بما انه هو كل شيء، ولا يفقد شيئا لأنه منزه عن هذه الصفة أيضا، بينما أشياء العالم الخارجي هي في حركة دؤوبة بسبب السعي على امتلاك ما ينقصها، إلا أنها ما إن تملك شيئا حتى تطمع في شيء آخر، وهو الأمر الذي يعني ان نقصانها أبدي ازلي لا ينتهي حتى يبدأ من جديد.
لقد ترك برمنيدس إرثا كبيرا ومدرسة لها صرحا كبيرا من الصعب تقويضه، الأمر الذي جعل لها خصوما، من ثمة فقد كانت الحاجة ماسة إلى من يحمل مشعل الدفاع بعد التأسيس، وهي المهمة التي أوكلت إلى زينون الإيلي، إلا أن فلسفته شكلت قوة كبيرة من معلمه، حيث لم يسر في درب الحديث عن الوجود الثابث الحقيقي في مقابل أشياء العالم المتغيرة، بقدر ما عمل على نفي الحركة على كل شيء بما فيها أشياء هذا العالم. فكيف ذلك.