سيكون من الصعب بمكان تلخيص فلسفة ديكارت في مقال أو مقالين، بله مهمة لن تكتمل إلا بكتاب ضخم، بأجزائه وأقسامه وفصوله، وذلك لعدة أسباب أولها كثافة الكتابة الديكارتية التي تجبرنا على الوقوف مليا عند عبارة واحدة، عبارة واحدة إذا تلقفناها بالشكل المطلوب فإنها ستفتحنا على بحر من الأفكار التي لا ينضب لها معين، أما ثاني هذه الأسباب فإنه يتمثل في المكانة التي حظيت بها هذه الفلسفة، مكانة أقل ما يقال عنها أنها لحظة ومرحلة فاصلة من مراحل تاريخ الفلسفة، بيد أنها مؤثرة على علوم ومعارف أخرى خاصة الرياضيات والفيزياء والبصريات والرسم.
وعلى المستوى الثالث أكاد أقول أن فلسفة ديكارت شكلت لوحدها نسقا كاملا وهو ما وضعنا أمام كتابات متعددة ومختلفة تأرجحت بين التفسير والتعليق والشرح ثم النقد.. لم نعد بعدها أمام فلسفة ديكارت فقط، وإنما أصبحنا أمام الديكارتية الجديدة، والديكارتية كمنهج والديكارتية التطبيقية.
لذا سنعمل في هذا المقال على الوقوف عند أبرز ما جاءت به فلسفة ديكارت ألا وهو مسألة المنهج، لن نكون انتقائيين في هذا الأمر، إلا أن الضرورة فرضت علينا الاشتغال على نموذج بعينه والتعريف به. في المقابل أمكننا أن نتساءل عما هي الأسس التي بنت صرح هذه الفلسفة الكبيرة؟ ما هي كبريات اهتماماتها وما أثرها على تاريخ التفكير الإنساني؟
إن أول أمر أو قل أول شرط توجب الانتباه إليه ونحن بين أيدي فلسفة ديكارت، هو الوقوف عند الفلاسفة والعلماء الذين كان لهم تأثيرا على أب الفلسفة الحديثة، صحيح أنه لم يعترف سوى بغاليلي، معتبرا إياه فتحا مبينا ليس في الفلسفة فقط وإنما في الفيزياء والفلك كذلك، إلا أنه ومع ذلك نجد حضورا مستترا لأعلام كبار من أبرزهم فيتاغورس وأفلاطون وأقليديس وبطليموس وأرسطو وابن الهيثم ودان سكوت والقديس أغسطين والقديس أنسلم وتيكو براهي والمعلم إيكهارت وأوكام..
أهم شيء تميز به ديكارت هو الإيمان بأن لكل معرفة منهجا خاصا بها توجب السير على منواله إما لتجويدها أو تلقينها أو الإبداع فيها.. والحال أن الرجل كان منشغلا كثيرا بأهمية وضع منهج يطبق في كل العلوم والمعارف، ويتغيى تحقيق مطلبي الكونية والنجاعة. ستشهد سنة 1628 تأليف كتاب حول المنهج بعنوان Les Regulae ad directionem ingenii إلا أنه لم يكتمل، كما أنه لم يتم نشره إلا بعد وفاته، مخافة أن يقع له ما وقع لغاليلي إبان محاكمة روما الشهيرة. خاصة وأنه بنى هذا المخطوط بغرض تفكيك شيفرات المبادئ الميتودولوجية للفيزياء الجديدة التي أرسى دعائمها غاليلي.
ينبني المبدأ الأول على قاعدة أساس ترى أن هدف وغاية كل دراسة لا يخرج عن مبدأ توجيه العقل نحو القدرة الصلبة على إنتاج أحكام قوية وحقيقية إزاء كل موضوع يشتغل عليه. والحال أن هذا القاعدة إذا ما تأملناها جيدا نجد أنها تسعى إلى بلوغ الحقائق العلمية بطريقة متناسقة لا عيب فيها، وهي للإشارة مشروطة بعمل عقلي محض، لماذا؟ لأنه وبكل بساطة توجب على كل مشتغل في العلوم الإيمان بقدرات العقل الخارقة على فهم الواقع وتشكيله وبناءه، في حين أن الاكتفاء بالحواس فقط، من شانه أن يقدم لنا خذعا متواصلة دون اكتشاف أو فهم ما يجب اكتشافه وفهمه. ومن ثمة فإن كل عمل يسعى لبلوغ الحقيقة عليه أن ينطلق من العقل القادر على الفحص والتمحيص والتفكيك وما على غير ذلك من الأنشطة الذهنية.
القاعدة الثانية الثي اشتغل عليها ديكارت في هذا الكتاب، هي القاعدة التي تؤكد أنه لا يجب الانشغال إلا بالمواضيع التي ستنتهي بنا إلى نتائج يقينية ومتماسكة بل ومتأكد منها، والحال أنه لتحقيق هذا الأمر، توجب الانطلاق دوما من المعارف القبلية التي تسكن عقولنا، هي معارف لا تكتسب لأنها لو كانت كذلك لبتنا أمام تفاسير تختلف باختلاف المزاج والوسط والبيئة ودرجة التحفظ. لهذا يدعونا ديكارت إلى التخلص من كل الحقائق التي لا يدركها العقل على المستوى العقلي، بل إنه يؤكد فكرة مفادها أن كل علم حقيقي هو معرفة يقينية وبديهية. والحال أن ديكارت توقف مليا عند هذه القاعدة كي ينفي صفة العلمية والحقيقة عن كل المبادئ والمقدمات والمعارف التي تتميز بنتائج لا تخرج عن ثلاث مستويات وهي الاحتمالية أو التقريبية أو القابلية للشك فيها.
ترتكز القاعدة الثالثة على ضرورة الاهتمام بالمواضيع قيد دراستنا، أي القيام باستنباطها بواسطة حدس واضح وبديهي، وهو للإشارة عمل يفترض مجهودا جبارا، لأن ديكارت يدعونا بخصوص هذا الشأن إلى عدم الانهمام بالأفكار التي تشغل بال الآخرين، لأنها أفكار سلمت لهم دون أن يفكروا في مدى صحتها. ومن ثمة فقد توجب التركيز عما يمنحه لنا حدسنا وبديهتنا لكن شريطة التخلص من كل الأفكار التي لازالت محط ظننا فقط دون تأكيدها بالبرهان، والاكتفاء فقط بتلك التي تمكنا من البرهنة عليها.
ترى القاعدة الرابعة والأخيرة أنه لا يمكن الاستغناء عن المنهج وفي نفس الوقت نبحث عن الحقيقة، إذ ما كل حقيقة سوى منهج وقد سار في طريقه الصحيح الذي ينيره العقل، يرى ديكارت في هذا الصدد أن الشخص الذي يبحث عن الحقيقة دون اتباع المنهج هو شخص أعمى سقط بسبب الفضول في المعرفة دون أن يتبع المنهج العقلي الذي يتأتى بالتفكير وليس بالمسلمات. والحق أن السير على منوال عشوائي من شأنه أن يبعثر أوراق نورنا الفطري أي العقل، كما أنه يشوش ويعمي بصيرتنا.
لقد كان علينا الاكتفاء فقط بما ذكرناه سلفا، ليس بمنطق انتقائي لأن فلسفة ديكارت كلا لا يقبل التجزيئ، بيد أننا نسجل روح الإبداع التي ميزت الرجل، وطريقته الجديدة في التفلسف التي كانت قائمة ليس على التفكير في الموضوعات، وإنما على التفكير في التفكير بغرض بلوغ الحقائق الواضحة والمتميزة، وأيضا سعيا إلى التخلص من كل المسلمات التي يقدمها لنا الوسط والبيئة، على العموم سنجد أنفسنا في حاجة كبيرة للفلسفة الديكارتية اليوم، على الأقل كي تجنبنا هذا التعصب الذي يسكن مجتمعنا، وتهدم الجهل الذي يلبسنا من كل حدب وصوب، وتصون لنا متعة التفكير وليس عجز الاستهلاك المستمر.