لقد تميزت الفلسفة الحديثة بالتوسع في العديد من المفاهيم والقضايا سواء الأنطولوجية منها أو الابستيمولوجية أو حتى الأكسيولوجية، لتضعنا أمام بحر شاسع لا متناه من الأفكار والإنتاجات الجديدة، خاصة وأنها بدأت في التخلص رويدا رويدا من تبعات العصر الوسيط وثنائية الإسمي والواقعي. لقد منحت الفلسفة الحديثة أفقا آخر مغايرا لما كان عليه الأمر إبان القرون التي كانت قبلها، وهي بذلك حققت لنفسها حيزا كبيرا من الاستقلالية الفكرية مانحة الدفعة الأهم للعقل ومركزية الإنسان كفرد إضافة إلى مفهوم الحرية أو بلغة فلاسفتها الكبار مبدأ الإرادة الحرة le libre arbitre هذا وقد تشعبت مواضيع الفلسفة الحديثة حيث فكرت في كل شيء تقريبا، بداية من التفكير نفسه وصولا إلى الفرد، ومرورا عبر العقل والدولة والأخلاق والميتافيزيقا والحس والحدس والفن والفضائل والعلم.. ولا شك أن هذه التفاعلات الخلاقة أفرزت لنا مفاهيم جديدة على غرار الكوجيتو ونقد العقل والمونادولوجيا والعوالم الممكنة والقبلي والبعدي والإيديولوجيا والترنسندنتالي le transcendantal والعقد الاجتماعي وما إلى غير ذلك كثير.
وفي هذا الخضم سيسطع نجم فيلسوف اعتبر من كبار تاريخ الفلسفة منذ نشأتها، فيلسوف كتبت حوله مؤلفات لا حصر لها، وأنجزت عليه أبحاث غير معدودة، مما يعزز نبوغه وأهميته وفرادته أيضا، الحديث هنا عن فيلسوف كونكسبورغ إيمانويل كانط.
بدأت المسيرة الفلسفية لكانط، أو قل المرحلة الأولى وهي الموسومة بالمرحلة قبل النقدية، بدأت بتأثره بالفلسفة العقلانية وتحديدا فلسفة ديكارت وولف ولايبنتز التي كانت تنظر إلى العقل بوصفه المبدأ الرئيس للمعرفة، والموجه الأساس للتجربة الحسية. بل إنه بإمكانه إدراك الواقع قبليا دون وساطة معطيات الحواس. إلا أنه لم يعمر في هذا الطرح طويلا حين بزغ نور دافيد هيوم الذي أيقظه من سباته العميق على حد قولة، من هنا أعاد النظر في العديد من المبادئ الفلسفية التي أرست دعائمها الفلسفة العقلانية، ولا شك أن أهمها وقوعه في الريب بحيث أن العلوم ليست مرتبطة فقط بمبدأ عقلي محض، إنها في حاجة إلى موضوع يشكل التربة الخصبة للاشتغال وإلا سنكون أمام علوم معلقة بين السماء والأرض. لكن وفي مقابل هذا الأمر كان لمبدأ السببية كبير دور في إعادة كانط النظر حول بعض القوانين العقلية والتي كان يعتقد سلفا أنها ثابتة وقبلية. من هنا هل أمكننا إنقاذ العلوم والميتافيزيقا من معضلة الريب؟ ما حدود معرفتنا؟ وما هي إمكانات حدوث فعل المعرفة المطلقة والحقة؟
عندما أعاد كانط قراءة التراث العقلاني، كان لا بد من الانفتاح على المدرسة التجريبية، وهكذا فقد ألفى نفسه أمام فرصة مواتية للقيام بنقد مباشر للمدرسة العقلانية، الأمر الذي جعل فلسفته تلقب بالمثالية النقدية أو من يلقبها أيضا بالعقلانية النقدية. لا يهمنا على العموم في هذا الأمر إلا عبارة النقد. أو لنقل إن الغريب فيه أن يظهر فيلسوف في عز عصر الأنوار وفي أوج الفلسفة الحديثة حيث يعتبر العقل مركز كل نشاك إنساني مهما كانت طبيعته، ثم يدعو الفلاسفة إلى استعادة مبادئ العقل وفحصها وتمحيصها، بداية تجاوزا للدوغمائية العقلية، وتثنية للوقوف عند حدود العقل الخالص وأنه يتأرجح دوما بين قطبين وهما قطب المعرفة وقطب التفكير، والحال أن مشكلة العقل المحص تكمن في أنه عقل يفكر لكنه لا يمكن أن يعرف كل شيء، وتحديدا ثلاثة مواضيع سيجد العقل الخالص نفسه عاجزا على معرفتها، لهذا فغنه سيكتفي بالتفكير فيها دون أن يجد سبيلا سديدا لإنتاج المعرفة حولها، الحديث هنا عن وجود الله وبداية العالم وخلود النفس.
إن المدخل لفلسفة كانط كمثالية نقدية، هو في الحقيقة مدخل إلى ثلاتيته النقدية الموسومة بكتابه العمدة نقد العقل الخالص ثم نقد العملي وأخيرا نقد ملكة الحكم. الكتاب الأول اهتم بثلاثية الرياضيات والفيزياء ثم الميتافيزيقا ومدى إمكانية حصول فعل المعرفة لدى هذه العلوم والمعارف. أما المؤلف الثاني فقد كان رحاه يدور حول العقل الأخلاقي العملي، وهو للإشارة عمل جاء بعد كتاب العقل الخالص، لأن هذا الأخير وصل إلى نقطة النهاية دون أن يقدم لنا أجوبة شافية واضحة ومقنعة حول معضلة العقل المحض التي تكمن في عدم القدرة على معرفة المواضيع الثلاثة سالفة الذكر والاكتفاء فقط بالتفكير فيها، من ثمة فقد توسل كانط للأخلاق كي تنقده بعدئذ من هذه الدائرة المفرغة التي سقط فيها. وأخيرا فلا شك أن كتاب نقد ملكة الحكم سيهتم مطولا بمسألة الفن ومنطلقها هو السؤال التالي: ماذا يمكنني أن آمل.
لقد قلنا سابقا أن التعمق والتدقيق في فلسفة كانط لازال عملا لحد الساعة يتطلب مراجع متعددة، كما أنه يشترط الكم والكيف، لذا لن نستطيع في هذا المقال سوى التعريف بكانط مع ضرورة الإشارة إلى أهم الأفكار التي جاء بها خاصة في الكتب الثلاثة سابقة الذكر. هذا ما سنقف عليه حلقة يوم غد.