تعتبر لحظة كيركجارد ـ إلى جانب لحظة شوبنهاور ـ حدثا كبيرا في تاريخ الفلسفة، بسبب مجموعة من العوامل لعل أولها اهتمام فيلسوفنا الدانماركي بمواضيع كانت إلى عهد قريب منسية من طرف كل الفلاسفة. لا يجب أن يقتصر التفلسف على مواضيع بعينها كالعقل والدولة والحق والجمال والأخلاق.. مشكلة هذه المفاهيم أن الفلاسفة يحاولون أن يضفوا عليها دوما طابعا عقلانيا محضا، في حين أن الأمور لا يجب أن تسري دوما هكذا. كلا إذ هناك من المفاهيم التي توجب تسليط الضوء عليها، ليس من أجل عقلنتها وإنما على الأقل من أجل وضعها هي الأخرى فوق طاولة التفلسف.
العامل الثاني الذي من خلاله تبوأ كيركجارد مكانة الكبار تكمن في اللغة التي بات يكتب بها، لغة غير نسقية منتظمة وإنما تأخذنا من فكرة لأخرى، أحيانا تلبس ثوب الصرامة وأحيانا أخرى ترتدي لباس التنطع من كل نظام من خلال توظيف الأمثلة أو اعتماد جمل تهكمية، بل إن رسالته في الدكتوراه لم تخلو لغته التهكمية الشهير بها خاصة وأن تلك اللحظة كانت تتطلب حزما أكاديميا ولغة رسمية، لكن لسان حاله كان يقول: إذا كانت تكمن العبرة في الفكرة فلا ضير من اللعب بالأسلوب بل وبعناوين الكتب أيضا إذ يبقى من بينها: "مفهوم القلق" وكتاب آخر بعنوان: "رسالة في اليأس" وثالث غريب عجيب بعنوان: فتات فلسفي" ورابع موسوم ب" المرض حتى الموت"
كتب كيركجارد في مواضيع شتى من قبيل المسيحية والسخرية والقلق والموت واليأس والوجود والحب.. والحال أنه عندما نتأمل المواضيع التي كتب فيها، نجد أنفسنا أمام رد معاكس للفلسفات النسقية التي كانت قبله خاصة المثالية الألمانية. سيعرف كيركجارد بعدئذ بمؤسس تيار الوجودية في الفلسفة، والذي سينتشر في كل ربوع العالم بل سيعرف مدا كبيرا في باقي الميادين من تشكيل ومسرح وأدب وسينما خاصة إبان اللحظة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية.
تقوم فلسفة كيركجارد على فكرة تؤكد أن حياتنا منذ البداية حتى النهاية قلق دائم وحزن مستمر ويأس ثابت، هي يأس لأنها تجبرنا على الإخلاص لمفهوم الإلتزام، الإلتزام مع المجتمع والأسرة والعمل والأصدقاء وكافة الناس الذين يحيطون بنا.. ماذا تبقى لنا من أنفسنا إذن خاصة وأن التزاماتنا مرض عضال ومزمن يصيب الحرية ويقتلها في أغلب الأحيان. والحياة حزن لأن مآلها الموت إذ كلما عمرنا فيها أكثر كلما سيق وزج بنا للتفكير في سؤال الموت ووداعها الأبدي. وأخيرا فإن الحياة قلق لأنها تضعنا داخل دوامة الزمن الذي يأكل من أطرافنا كل جزء من الثانية إلى حين بلوغ نهايتنا الحتمية. فما الحل إذن؟
يرى كيركجارد أن حياة الإنسان مقرونة بالقلق الوجودي، إلا أنه يحدث لنفسه بؤرة يحاول دوما أن ينفلت عبرها من التفكير في هذا القلق الجاثم على صدره. من ثمة تقترن الحياة لدى الإنسان بثلاثة مستويات تنسيه نوعا ما قلقه الوجودي، وهما على التوالي المستوى الإستطيقي أو الجمالي، المستوى الإيطيقي أو الأخلاقي، وأخيرا المستوى الديني.
المستوى الأول أي الإستطيقي، مستوى يحاول الفرد من خلاله الانفلات من القلق الوجودي ونسيانه، وذلك عبر خلق آليات دفاعية ترتبط بكل ما هو جمالي، يرى كيركجارد أنه في هذا المستوى ينتقل الفرد بشكل مستمر من شيء إلى آخر ومن مجال لمجال جديد رافضا بذلك السقوط في دوامة الاستقرار والثبات. رافضا كذلك الديمومة وهو ديمومة يتمرد عليها دوما ويحاول الانعتاق منها بخلق مغامرات متجددة لا تستقر على حال واحد، مغامرات يجب أن تحدث سواء مع الأفكار أو الأشخاص أو الأشياء أو الأمكنة.. أو بعضها أو كلها. هكذا تتجلى غاية المستوى الأول في لعب دور المار أي الشخص الذي يمر من هنا إلى هناك دون استقرار يذكر.
وفي المقابل فإن كيركجارد يرى أن هذا المستوى يأخذ أوجها ثلاثة، الوجه الأول موسوم باليهودي الهائم، أي ذلك الذي يهيم في الأرض دون الميل إلى ركن ركين ولا التعقل بمكان مكين. وقد استعار صفة اليهودي لأنه يمر عبر كل الأمكنة دون أن يقبله مكان ودون أن يقبل بدوره مكانا واحدا. الوجه الثاني يسميه كيركجارد بفاوست ـ بطل إحدى المسرحيات التراجيدية للمؤلف الألماني غوته ـ وهو الذي يتنقل من فكرة لأخرى دون أن يستقر على واحدة. وأخيرا يربط كيركجارد الوجه الثالث بدون خوان ـ زير النساء الشهير وبطل ملحمة ماجن إشبيلية ـ وهو الذي يتنقل من شخص لآخر دون أن يستقر على أحد، حياته مغامرات مستمرة وتهكم مستمر. لذا سنلاحظ مع كيركجارد أن هذا المستوى الذي نسعى إليه كلنا هو عين التفكير الفلسفي، الحياة مرتع وفضاء للمعيش واليومي وليس للتصورات العقلية والروحية التي حاول أن يرسي دعائمها فلاسفة سابقين عنه.
المستوى الثاني وهو المستوى الإيطيقي، يحاول كيركجارد أن يربط فيه بين مفهوم القلق والإيطيقا، إذا كلن المستوى يتغذى بالهيام والانتقال من امرأة لامرأة أو من مكان لمكان أو من فكرة لأخرى، فإن المستوى الثاني مبني على مفهوم الإخلاص الأخلاقي. يرى الإنسان في حياته انه ضحية للزمن، للزمن الغادر الذي يذكره بالعد العكسي نحو الموت، ولكي ينسى هذه المأساة المؤدية للقلق ارتأى أن يصنع لنفسه قانونا أخلاقيا يسير على منواله إخلاصا وتضحية، قانونا عبارة عن فكرة تسجننا وترسم لنا حدود التصرف والكياسة والفعل ورد الفعل واليقينيات. إلا أن هذا المستوى لن يرقى للمستوى الأول، حيث اعتبره فيلسوفنا مستوى غير كاف للتغلب على القلق، لأنه سهل السقوط على يد السخرية والتفكه.
نصل إلى المستوى الثالث، أي المستوى الديني، وهو أخطر المستويات لانه يزرع الطمأنينة في كل فرد. الأفراد مهما علا شأنهم أو صغر يجدون أنفسهم أمام الباب المسدود لحظة التفكير في الموت، أي لحظة السقوط في براثن القلق الوجودي، ما الذي يفعله لهم الدين غير إقناعهم بأن هذه الحياة الفانية والمحدودة التي يعيشون فيها مجرد جسر نحو الحياة الحقيقية الخالدة حيث لا قلق فيها، أو لنقل غنها حياتنا حيث القلق لحظة عابرة وستزول لكن من أجل بلوغ الحياة الحقيقية علما أنها رهينة بدورها بالإخلاص والإيمان بأن للعالم خالقا باعتباره الضامن الأول والأخير للوجود. صحيح أن كيركجارد كان بروتستانتيا، إلا أنه دائما ما واجه الطقوس الدينية بالتهكم، كان يرى فيها بلادة وغباء منقطع النظير، لم يقتنع دوما بالعلاقة العرضية والاعتباطية بين الصليب والوجود الإلهي والخطيئة والمسيح. كان يرى في هذا الأمر مفارقة مستمرة لكنه ضروري في نفس الآن لأصحاب النفوس الهشة الذين لا تكتمل الحياة لديهم إلا بالبحث عن ضامن وجودي وهو الإله.
لقد تمكن كيركجارد من التأسيس لطريقة جديدة في التفلسف، صحيح أنها طريقة يغلب عليها الطابع التهكمي، إلا أنها تحمل ما تحمل من أفكار تشدنا إليها شدا من الصعب الانفلات من قبضتها، على العموم ليس التفكير مقرونا فقط بمقولات العقل القبلية، ولا بالروح المطلق ولا الأنا الترنسندنتالي.. كلا إذا ما هكذا يؤخذ بالأمور، الفلسفة أضحت مع كيركجارد تجربة معيشة وتفكيرا في القلق وتفكيرا في التخلص من القلق. آن لنا اتخاذ القرار الصائب.