من سبق وأن اطلع على نيتشه وفيتغنشتين لن يحكم على الطريقة التي كان يكتب بها هيرقليطس ـ الذي اعتبر من طرف النسبة الساحقة من الدارسين لتاريخ الفلسفة من بين كبار الفلاسفة في تلك الحقبة ـ والتي لم تخرج عن الكتابة الشذرية، أي تلك التي تتميز بكثافة المعنى، بيد أن مسألة تأويلها تكون صعبة وغير متاحة.. لم نتوصل إلا بكتاب وحيد لهيرقليطس يحوي بين طياته 125 شذرة، إلا أن جلها تميز بالدفاع على معنى واحد، وتصوير طريقة جديدة في التفكير لازال صرحها قائما لحد الساعة. فما هو هذا المعنى الذي شكل عمود فلسفة هيرقليطس؟ وما هي هذه الطريقة التي لم تكتفي بالفلسفة فقط وإنما شملت كل معارف الإنسانية سواء النظري منها أو التطبيقي؟
يرجع أغلب الدارسين للفلسفة مسألة غاية في الأهمية، مفادها أن هيرقليطس هو أول من وضع قانون الديالكتيك ـ وإن كان لزينون الإيلي أيضا مساهمة في هذا الباب ـ وبهذا الأمر فإن الواقع في مجمله تجسيد لصراع أزلي بين المتناقضات، علما أن كل منتصر في هذا الصراع لابد ان ينهزم مستقبلا مانحا مكانه لمنتصر جديد هو في الأصل نقيضه الآخر وهكذا دواليك.. فعلى سبيل المثال نرى أن الواقع ميدان لصراع ازلي بين الخير الشر، النظام واللانظام، الليل والنهار.. وهو للإشارة صراع لا يمكن أن يستوي واقعنا بدونه.
اقرأ أيضاً: نافذة ثقافية.. المدرسة الذرية: للفلسفة "ميكروسكوب" اسمه العين المجردة
لذا نكاد نقول أن واقعنا لا يعدو سوى صيرورة مستمرة وقد قُدر على أشياءه أن تتغير تباعا دون توقف، نقرأ على سبيل المثال في الشذرة 62 العبارة التالية: "الذي لا يفنى فان، والفاني لن يفنى، الأول يعيش فناءه والثاني يفنى في حياته." عندما نتأمل هذا القول نعثر على خيط ناظم يقول أن الأشياء تولد نقيضها، وهو للإشارة يسري عليها مثلما يسري على باقي العلاقات التي تسكن عالمنا. هكذا فإن كل بداية تتولد عنها نهاية، وكل نهاية إعلان لبداية جديدة، إن الذي يولد سيأتي يوم يفنى فيه والفاني سيفنى لأنه ولد، فإن أراد ألا يفنى عليه في الأصل ألا يولد، أي انه إذا كانت له بداية فلينتظر النهاية في كل حال من الأحوال.
والحال أنه مع هيرقليطس تعلمنا درسا جديدا يرى أن بين المتناقضات علاقة تكامل وليس تضاد كما تعطيها لنا بعض أشكال التفكير، فإذا أردت ان أولد الطاقة مثلا، فأنا في حاجة لتكامل السالب مع الموجب اللذان يربط بينهما تضاد مطلق، إلا ان هذا التضاد يولد لنا شيئا جديدا يسير بدوره نحو الزوال، نفس الشيء ينطبق على الأنثى بالذكر.. على العموم كل الأشياء تنتهي والبقاء للصيرورة التي لا يمكن أن تضمن لنفسها الاستمرار إلا بواسطة قوة التناقض والتضاد.
اقرأ أيضاً: نافذة ثقافية مع هادي معزوز.. برمنيدس وزينون: لتذهب الحركة إلى الجحيم 2/2
يؤكد هيرقليطس هذه القاعدة في الشذرة 88 عندما يقول: "إن الشيء نفسه حي وميت، نائم ومستيقظ، شاب وكهل، لأن الأول يتحول إلى الثاني بعدما يطرأ عليه التغيير، ثم يتحول بعدئذ إلى ما كان عليه." والحق انه عندما نتمعن في هذا القول نجد أنه يقف على أرضية مبدأ التحول والانتقال، أما إذا ذهبنا أبعد من ذلك يمكن أن نلمس فيه جوابا على الفلاسفة الذين قالوا بالثبات وتحديدا المدرسة الإيلية. هكذا قد لا نتعجب عندما نرى هيرقليطس يدافع على الصيرورة الازلية لكل شيء، بل إن شرط الوجود لا يمكن إلا أن يقترن بالتغير، وبعبارة أدق فإن الوجود هو ما يصير شيئا آخر غير نفسه.
لاشك أن اللحظة الهيرقليطية شكلت منعطفا كبيرا ليس في تاريخ الفلسفة، وإنما في تاريخ الإنسان وقد قرر أن يفكر بشكل اكبر من سابقه، والشاهد على ذلك هو الصدى الذي خلفه الرجل حيث امتدت قواعده الفلسفية إلى يومنا هذا. في قولة منسوبة لهيجل يرى هذا الأخير أنه من أجل قيام السلم يجب أن تكون هناك حرب أولا. يلتقي هيجل كثيرا مع هيرقليطس، بل إنهما يلتقيان في المبدأ الذي بنيت حوله فلسفتهما ألا وهو الديالكتيك، في هذا الصدد يقر هيرقليطس في الشذرة 51: "إن الحرب هي أم كل شيء، وهي أيضا أسمى الأشياء، إنها تجعل من البعض آلهة مثلما تجعل من البعض الآخر إنسانا، الحرب تخرج منا أسيادا بالقدر الذي تخرج عبيدا".
هل يمكن أن نغامر ونقول باستحالة قراءة الواقع دون الاستعانة بمبدأ الديالكتيك الهيرقليطي؟ ألا أنلاحظ أن بعض الفلاسفة قالوا باستحالة التفلسف خارج قبضة هيجل، فنقول بدورنا أن هيجل الإبن البار لهيرقليطس وتلميذه النجيب؟ تلك إذن هي القضية.
اقرأ أيضاً: نافذة ثقافية مع هادي معزوز.. برمنيدس وزينون: لتذهب الحركة إلى الجحيم 1/2
وفي معرض آخر، وعلى غرار الفلاسفة قبل سقراط، كان لهيرقليطس قولا مهما في الكوسمولوجيا، لعل أوله جعل النار أساس العالم، واعتبارها المادة الوحيدة التي تجسد الاستمرار الأبدي لكل شيء، يقول في الشذرة 30: "إن هذا العالم الذي ينظر إليه من طرف الجميع نفس النظرة، لم يتم خلقه لا من طرف الإله ولا من طرف البشر، ولكنه كان منذ الأزل وسيبقى إلى الأبد، إنه نار حية أبدية تشتعل بانتظام وتنطفئ بانتظام كذلك." لذا يؤكد هيرقليطس أن الكون تراتبي في الأصل، يتسيده الأصل وهو النار التي كانت تحمل اسم éther باللغة الإغريقية القديمة، ثم ينتهي إلى أحط طبقة وهي الماء والتراب اللذان هما في الأصل نار منطفئة، فالنار عندما تصاب بالرطوبة تتحول على ماء، وعندما تصاب باليبوسة تتحول إلى تراب، حيث يسمي هيرقليطس هذه الحركة بالطريق من الأعلى إلى الأسفل ثم من الأسفل إلى الأعلى.
لكن أهم ما ميز فلسفة هيرقليطس في الكوسمولوجيا هو قوله بأن العالم انتقال من دورة لأخرى بشكل منتظم متسلسل، أي أن لكل دورة امتداد معين في الزمان يؤدي إلى النهاية التي تعقبها مباشرة بداية أخرى، حيث يتكرر ما حصل في الماضي بشكل لا متناه بما سيحصل لامتناهيا في المستقبل دون توقف يذكر. أي أن جميع الأحداث التي تقع قد وقعت في الأصل وستقع دون أن تنتهي، العالم مثل الآلة يعيد نفسه باستمرار بينما نحن مجرد لعبة في يده نعيد أنفسنا أيضا باستمرار، التفكير في تحدي سيرورته هو في الأصل جزء لا يتجزأ من قدرنا الذي يعاد، إنه قدر في يد من نار، قدر ينطفئ كي يشتعل مرة أخرى، لكن في اشتعاله احتراق نتيجته انطفاء آخر.