عاش أرسطو حينا من الزمن تحت كنف أكاديمية أفلاطون، عاش تلميذا ثم مدرسا بها. لم يكن تلميذا عاديا بقدر ما أن مروره شكل لحظة مفصلية في تاريخ البشرية، ولو أمكن للغة أن تصفه لعجزت عن ذلك، لم لا وهو الذي تحدث في كل شيء تقريبا، حديث لا يطاله التشكيك في قوة وصلابة حججه حتى ولو لم نتفق معه.
كَتب أرسطو في الفيزياء والميتافيزياء والكوسمولوجيا والسياسة والأخلاق والحيوان وعلم النفس والمنطق والفيزيولوجيا وعلم النباتات وعلم الأحياء والشعر والخطابة والأدب والمسرح والفنون المنزلية. لم يكتب فقط في هذه الميادين بدافع الكتابة وإنما أبدع فيها أيما إبداع.
لكن ونظرا للضرورة التي دأبنا عليها طوال هذه السلسلة ـ التي لا تروم التدقيق فيما جاء الفلاسفة، بقدر ما هي بطاقة دعوة تعريفية لولوج عوالمهم والسفر فيها وعبرها ـ سنكون موجزين في حق هرم لا يقبل الإيجاز وإنما التفصيل في التفصيل، فليعذرني المعلم الأول عن ذلك، وليسمح لي بأن أتساءل فقط عما هو الخيط الجامع المانع لفلسفته؟ كيف أثر أرسطو في طريقة تفكير الإنسان؟ وكيف استطاع أيضا أن يتخلص من الانصياع لمبادئ الاكاديمية والفلسفة الأفلاطونية على حد سواء؟
عندما أتى أرسطو إلى أثينا لم يكن عمره يتعدى 17 سنة، كان يتميز بنباهة قل نظيرها، الشيء الذي بوأه مكانة التدريس بأكاديمية أفلاطون والحال أن هذا هو التحول الأول في حياته.
التحول الثاني سيحصل عندما سيتلقى الرجل دعوة مباشرة من طرف الملك المقدوني فيليب قصد تدريس شخص سيكون له شأنا عظيما في المستقبل، هذا الشخص ليس إلا الإسكندر الأكبر.
التحول الثالث الذي طبع حياة أرسطو هو عودته مجددا لأثينا حيث عمل على إعطاء دروس في إحدى الصالات والتي ستأخذ بعد ذلك اسم "الليسي lycée " أو اللوقيوم أو الليسونة باللغة العربية. لم يكن هذا المكان الذي سيشغله أرسطو مكانا قارا لسبب بسيط أن مالكه ليس من أثينا، والقانون يمنع على غير الأثينيين امتلاك خيرات المدينة المقدسة.
لكن ورغم ذلك فقد تمكن ليسي أرسطو من تكوين أعلام وتلاميذ كبار عملوا على ترتيب كتابات أرسطو ومأسستها وتأويل أو تفسير ما صعب منها. وأخيرا فإن الحدث الرابع الذي طبع حياة أرسطو تجسد عند وفاة الإسكندر، حيث تعرض فيلسوفنا للتنكيل من طرف خصومه الأمر الذي أدى إلى نفيه إلى حين وفاته سنة 322 قبل الميلاد.
يميز الدارسون والمهتمون بأرسطوـ أي على غرار ما رأينا مع أفلاطون ـ أن كتاباته انقسمت إلى ثلاثة مستويات، المستوى الأول وهو المتعلق بمجموع المؤلفات التي نشرت من طرف أرسطو نفسه، وهي مؤلفات كتبت بطريقة حوارية تحت تأثير الأفلاطونية وقد كانت موجهة لعامة الناس وليس للمختصين، إلا أنه تم فقدانها دون أن يصل لنا منها أي شيء اللهم بعض الشذرات المتفرقة هنا وهناك. المستوى الثاني من كتابات أرسطو كتب على شكل وثائق إلا أن أهمها وثيقتين، الأولى وهي المتعلقة بعلم الحيوان، بينما ترتبط الثانية بدستور أثينا الذي صاغه المعلم الأول، وقد عثر عليه مكتوبا على ورق البردي سنة 1891.
وأخيرا فإن المستوى الثالث من كتابات أرسطو وهو الأهم، فإنه لا يخرج عن مجموع الدروس التي ألقاها في الليسي أو تم تدوينها من طرف تلامذته المشائيين. سيعهد بعدئذ بجمعها وتصنيفها من طرفهم، والحال أنها هي التي وصلت إلينا لحد الساعة.
أول المؤلفات التي ميزت أرسطو هو عمله الضخم الأورغانون أو المنطق بلغتنا المعاصرة، حيث عمل فيه على تأطير التفكير الإنساني من خلال التفكير في التفكير، أو التفكير في كيف يتم التفكير، وهو أمر لازال ساري المفعول لحد الساعة وإن مرت عليه أكثر من ألفي بسنة.
يتكون هذا المؤلف من ستة كتب تم ترتيبها من طرف تلاميذه، الكتاب الأول يحمل اسم المقولات وعددها عشرة، أما الكتاب الثاني فقد كان متعلقا بفن التأويل. الكتاب الثالث يرتكز على التحليل والقياس المنطقي، بينما يعنى الكتاب الرابع بالمبادئ العلمية خاصة غير القابل للبرهنة عليها على غرار التعاريف والأكسيومات والمسلمات. يرتكز الكتاب الخامس من الأورغانون على المواضيع وتحديدا تلك التي توجب البرهنة عليها. وأخيرا فقد اشتغل أرسطو في كتابه السادس على الرد على أقيسات السفسطائية ودحضها.
بعد الأورغانون الذي شكل لوحده مشروعا فلسفيا ضخما، اعتبر المؤلف الثاني أهم محطة من محطات التفكير الإنساني. والحديث هنا عن الفيزياء حيث قسمه أرسطو بدوره إلى ثمانية كتب اهتمت كلها بالحركة والصيرورة، ثم رسالة في السماء المقسم إلى أربعة كتب تعالج حركة الأجرام السماوية.
بعدها مؤلف الكون والفساد الذي يتكون من ثلاثة كتب تشتغل على حركة عالم ما تحت فلك القمر، ثم يأتي تباعا مؤلف رسالة في النفس ويتكون من ثلاثة كتب. ناهيك عن أن أبرز ما ترك أيضا نجد عمله الكبير الميتافيزياء ـ وإن تمت تسميته من طرف تلامذته طبعا ـ ويتكون من 14 كتابا تعنى باختلاف معاني الكينونة، إضافة إلى كتابين في الأخلاق وعمل مهم في السياسة.
وزيادة على الكتب الضخمة التي تحدثنا عنها، فقد ألف أرسطو أيضا مجموعة من الكتيبات الصغيرة في النفس والفيزيولوجيا والحيوان، بل إن له كتابا في علم النباتات إلا أنه ضاع دون أن يصل إلينا.