سعيد إدى حسن.. إعلامي وباحث أكاديمي بجامعة "كمبلوتنسي" بمدريد
في التاسع والعشرين من شهر شتنبر 2022، نشرت وكالة الأنباء الإسبانية الرسمية "إفي" قصاصة مفادها أن القمة الأورومتوسطية، التي كان من المزمع انعقادها في الثلاثين من نفس الشهر، بمدينة أليكانتي شرقي إسبانيا، تم تأجيلها إلى وقت لاحق، بسبب إصابة رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، بفيروس "كورونا".
وأوضحت الوكالة في ذات القصاصة أن الحكومة الإسبانية أعلنت عن تأجيل القمة الأورومتوسطية التي تضم تسع دول أوروبية مطلة على البحر الأبيض المتوسط، بعد أن أجرى بيدرو سانشيز فحصا جديدا إثر إصابته بفيروس "كورونا"، ظهرت نتيجته إيجابية.
وكان من المقرر أن يشارك في هذه القمة رؤساء حكومات وممثلين عن تسع دول أوروبية يجمعها البحر الأبيض المتوسط وتحديات مشتركة؛ مثل الهجرة والطاقة والأمن ومكافحة الجريمة المنظمة، بالإضافة إلى التعاون الإقليمي، وهي إسبانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان ومالطا والبرتغال وقبرص وكرواتيا وسلوفينيا.
يومين فقط بعد إعلان قرار التأجيل هذا، أفاد قصر مونكلوا تعافي رئيس الحكومة الإسبانية من إصابته بالفيروس؛ حيث طار في الخامس من أكتوبر الجاري، إلى العاصمة التشيكية براغ؛ حيث شارك في القمة التي جمعت زعماء 44 دولة أوروبية، بينهم دول الاتحاد الأوروبي. كما استأنف نشاطاته الرسمية، ولكن لم يعلن بعد عن تاريخ جديد لانعقاد القمة الأورومتوسطية.
قد يبدو خبر تأجيل القمة الأورومتوسطية، للوهلة الأولى، عاديا؛ إذ اعتاد العالم أجمع على إلغاء وتأجيل لقاءات ومؤتمرات ومهرجانات وفعاليات مختلفة، بسبب انتشار الفيروس أو بسبب إصابة بعض المشاركين فيها بالعدوى، ولكن إذا دقننا في حيثيات الخبر، الذي تم تعميمه عن طريق قصاصة لوكالة الأنباء الإسبانية، وليس عن طريق بلاغ رسمي للحكومة، 24 ساعة فقط قبل انطلاق القمة، يمكننا الوقوف على الأسباب الحقيقية التي قد تكون وراء قرار التأجيل هذا.
أزمة الطاقة والتعاون مع المغرب في صلب المحادثات
جدول أعمال القمة كان مسطرا قبل عدة أسابيع، وكان من المقرر أن يتطرق رؤساء حكومات البلدان المشاركة لعدة قضايا، أبرزها سبل مواجهة التحديات والإكراهات الجديدة التي فرضتها الحرب الروسية-الأوكرانية وتداعياتها على دول المنطقة، خاصة أزمة الغاز والطاقة التي قد تغرق بعض دول أوروبا في الظلام والبرد القارس، بعد انقطاع الغاز الروسي، خصوصا وأن فصل الشتاء على الأبواب.
كان من المنتظر، بحسب مصادر مقربة من قصر مونكلوا، أن تخرج القمة الأورومتوسطية بمواقف موحدة لدول جنوب أوروبا بشأن استراتيجية الاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة، خاصة وأن دول الشمال الأوروبي الغنية لا تعبأ كثيرا للصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تسببها أزمة الطاقة لدول الجنوب الأوروبي.
وكان كذلك على جدول المحادثات دراسة جدوى المشروع الإسباني-الفرنسي الذي يُعرف باسم "ميدكات"، لمد خط أنابيب جديد يربط إسبانيا بباقي دول الاتحاد الأوروبي، مرورا بالأراضي الفرنسية.
وأُطلق مشروع "ميدكات"، في العام 2013، وكان من المتوقع أن يتصل بخط أنابيب الغاز الإسباني بشمال برشلونة، لكن توقف المشروع، في عام 2019، لأسباب تتعلق ظاهريا بـ"البيئة والتكلفة"، لكنها تخفي توجسا فرنسيا حقيقيا من أن تصبح إسبانيا اللاعب الأساسي في توريد الغاز إلى أوروبا، بداية من الجزائر، ومستقبلا من المغرب الذي ألقى بكل ثقله لمد خط أنابيب لنقل الغاز النيجيري إلى أوروبا عبر أراضيه.
وبالرغم من دعم ألمانيا وإسبانيا لهذا المشروع، إلا أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يعارضه بكل شراسة، بحجة أن خطي الأنابيب الحاليين غير مستغلين بالقدر الكافي؛ إذ تتجه التدفقات بصورة رئيسة نحو إسبانيا.
وبالإضافة إلى مسألة الغاز والطاقة، كان من المفترض أن تتطرق القمة الأورومتوسطية إلى أهمية تعزيز روابط التعاون مع دول جنوب الأبيض المتوسط، وبخاصة المملكة المغربية التي استدعيت للمشاركة في القمة كضيف، ممثلة بوزير خارجيتها، ناصر بوريطة.
المغرب/الجزائر وإسبانيا/فرنسا.. مربع العلاقات المعقدة
وبالإضافة إلى معارضتها الشديدة لمشروع "ميدكات"، أعلنت الرئاسة الفرنسية أنها ستطرح قضية نزاع السيادة على الصحراء بين المغرب من جهة، والجزائر وجبهة البوليساريو من جهة أخرى، على طاولة المحادثات في القمة الأورومتوسطية، بالرغم من أن هذه النقطة لم تكن موجودة على جدول أعمال القمة.
فرنسا التي دعمت المغرب لسنوات في نزاعه مع غريمه التقليدي الجزائر، مقابل حصولها على صفقات بملايير الدولارات، في شتى القطاعات الاقتصادية والمالية والبنى التحتية بالمملكة، أحست بأن قوى دولية أخرى؛ مثل إسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والصين وبريطانيا، قد تسحب البساط من تحت أرجلها وتهدد مصالحها والامتيازات الحصرية التي كانت تحظى بها في مستعمرتها السابقة، على مدى عقود.
ومما زاد من توجس فرنسا وتخوفها من ضياع سطوتها وسلطتها على مستعمرتها السابقة – تماما كما حصل لها في عدة دول إفريقية؛ مثل مالي وبوركينا فاسو ورواندا والنيجر – هو التغير المفاجئ والتاريخي في موقف الحكومة الإسبانية من نزاع الصحراء؛ حيث أصبحت مدريد تدعم علنا، ولأول مرة، مقترح الحكم الذاتي الذي يطرحه المغرب لحل هذا النزاع الذي عمر أزيد من نصف قرن.
فرنسا عللت طرح هذا الموضوع للنقاش خلال القمة الأورومتوسطية بـ"تداعياته على توريد الغاز الجزائري إلى أوروبا"، خاصة بعد أن أقدمت الحكومة الجزائرية على تجميد علاقاتها الدبلوماسية مع إسبانيا، بعد دعم الأخيرة لمقترح الحكم الذاتي بالصحراء تحت السيادة المغربية، وهو المقترح الذي بدأ يحظى بزخم دولي، بعد قرار الرئيس الأمريكي الأسبق، دونالد ترامب، الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، والذي أعلن عنه يوم 10 دجنبر من العام 2020.
هل أصبحت إسبانيا الحليف الإستراتيجي الجديد للمغرب بدل فرنسا؟
هل أراد ماكرون إحراج إسبانيا وإشعال فتيل أزمة جديدة بينها وبين المغرب؟ خاصة وأن حكومة بيدرو سانشيز تبدل قصارى جهودها لتفادي إغضاب الجار الجنوبي، وعدم الإخلال بتعهداتها المتضمنة في خارطة الطريق التي اتفق عليها البلدان لتعزيز التعاون وحسن الجوار بينهما، بعد أزمة دبلوماسية عمرت لأزيد من عام، بسبب استقبال زعيم جبهة البوليساريو خلسة، للعلاج في إسبانيا، وبسبب اجتياح آلاف المهاجرين المغاربة لثغر سبتة الخاضع للسيطرة الإسبانية شمال المغرب.
كل المؤشرات تدل على أن قصر الإيليزي، وبعد التقارب الأخير مع حكام قصر المرادية بالجزائر، يعمد إحراج إسبانيا بإقحام نزاع الصحراء في محادثات القمة، دون استشارة مسبقة مع البلد المضيف؛ حيث أفادت مصادر من رئاسة الجمهورية الفرنسية في تصريحات للصحافة، يومين فقط قبل انعقاد اللقاء، أن هذا الموضوع سيكون "بكل تأكيد"، حاضرا على طاولة النقاش.
الحكومة الإسبانية التزمت الصمت وتفادت مواجهة نظيرتها الفرنسية علنا، لكنها فطنت للفخ الذي نصبه لها ماكرون، فجاء الرد في أقل من أربعة وعشرين ساعة، بإعلان تأجيل القمة إلى تاريخ لم يتم تحديده إلى حدود الساعة.
فرنسا التي فقدت، وربما إلى الأبد، النفوذ الاستراتيجي الذي كانت تتمتع به في دول إفريقيا الغربية لفائدة قوى دولية أخرى؛ مثل روسيا والصين وتركيا، ربما لا تعي أن أي حسابات خاطئة في علاقاتها مع المغرب تصب في مصلحة إسبانيا التي تسعى إلى احتلال مكانها كشريك استراتيجي للمملكة المغربية، إلى جانب متنافسين جدد أبرزهم بريطانيا وإسرائيل.