بالنسبة إلى نور الدين الصايل، المدير السابق للمركز السينمائي المغربي، ليس النقاش الحالي حول لغة تدريس العلوم سوى عكاز تتكئ عليه شعبوية الأحزاب المغربية وقادتها.
"لم يتم الحسم في أي شيء بشكل واضح في فجر الاستقلال. وتركت مختلف الحكومات الأمور تسير كما هي مع التأكيد، بصوت عال، على أن العربية هي لغة القرآن، ولغة الأمة، ولغة المغرب، ولغة التدريس...
بيد أنه لم يعكف أي من أصحاب القرار بجد، في تلك الحقبة، على جعل العربية لغة المعركة من أجل الحداثة.. على تكوين لجن متعددة التخصصات لإعادة ابتكار لغة عربية قادرة على مواكبة التطورات العملية والتكنلوجية للعالم الذي كان في حالة فوران في الستينيات.
ولكن، وبسبب الشعبوية الدائمة للقادة وللأحزاب، كان يجري، منذ تلك الحقبة وكل خمس أو عشر سنوات، تعريب التعليم على هذا المستوى أو ذاك من المنهاج الدراسي. بهذه الطريقة بلغنا، بعد 12 عامة من التعريب، درجة أصبحنا فيها نعتبر تدريس كل المواد العلمية بالعربية أمرا عاديا، من المرحلة الابتدائية إلى البكالوريا، وعند الالتحاق بالجامعة يفرض على الطالب متابعة دروسه في الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء، والإحصائيات وغيرها بالفرنسية.. رجاء لا تضحكوا !
وأتذكر هنا أنه في وسط الستينيات، اقترح وزير التربية أن يشرع المغرب فورا في الإعداد بجدية ودقة لتعريب التعليم، وفي انتظار تحقيق ذلك، دعا إلى اعتماد تعليم ثنائي اللغة (عربي وفرنسي) في كل المستويات الدراسية. انبرى القادة السياسيون والأحزاب إلى الاحتجاج، فتم إعفاء الوزير، وتجديد التأكيد على التعريب بدون تحديد أي منهاج لتحقيق ذلك، بطبيعة الحال.
أنا هنا أتحدث، كما لا يخفى عليك، عن التعليم العمومي، الذي يرتاده 85% من التلاميذ المغاربة. أما التعليم الخاص بالمغرب، بمختلف أنواعه، فقد عرف، بشكل أو بأخر، كيف يتأقلم مع متطلبات ومعايير تعليم جيد ومتماسك. وأصحاب هذا التعليم يستلهمون نماذجهم من فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة... وحتى لما يعتمدون مناهج النظام التعليمي المغربي، فهم يحرصون على إغنائها بإضافة بعض من الصرامة والتنوع، وباختيار المدرسين الأكفاء. بهذه الطريقة ينهي تلاميذ هذا التعليم المرحلة الثانوية وهم يتقنون لغتين وربما ثلاث لغات...
يتميز النقاش الحالي حول اللغة العربية عموما بطابعه الهستيري !عم نتحدث بالضبط؟ بالتأكيد ليس عن هذه اللغة ولا عن القانون الإطار الذي كان السبب في كل هذا الهرج والمرج البرلماني- الحكومي. وفي الحقيقة، لم يقم القانون الإطار (إن قرأناه بكل نزاهة) سوى بإدخال نوع من السلاسة على مسار التعريب، في انتظار تحقق الشروط الموضوعية (من تكوين وبرامج) لتنزيله.
فما يمكننا استخلاصه من هذا النص هو أنه من المنطقي والمعقول، هنا والآن، تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية لأن هناك فرصا أكثر للعثور على مدرسين مغاربة يتقنون الفرنسية قادرين على النهوض بمهمة نقل هذه المواد إلى الرؤوس السمراء والشقراء والصهباء لأطفالنا الصغار. فليست العربية هي موطن الداء بل المشكل في ندرة المدرسين القادرين على تلقين المواد العلمية بلغة الضاد، في كل المستويات التعليمية. فلننظر، إذن، إلى القمر وليس إلى الأصبع الذي يشير إليه !
أما ما يخص مختلف السياسيات الداعية إلى تعريب التعليم بشكل جذري، وبغض النظر عن شرعيتها وضرورتها، فإنها قامت دائما على التسويف الماكر، الأمر الذي يرضي الجميع، بمن فيهم دعاة التعريب الشامل. وهذا ما أعطانا الوضع الحالي، المتميز بتدهور وتيه التعليم العمومي. فبدل الغوص عميقا للبحث عن الأسباب الحقيقية لهذا التدهور وإيجاد حل مناسب للمشاكل اللاحقة، وبدل الانكباب على بلورة أجندة دقيقة لإعادة بناء صرح التعليم ( بتكوين المدرسين، ومراجعة المناهج الدراسية، وإعادة الاعتبار لوضع المدرس)، يستسلم قاداتنا وأحزابنا لحمى التحوير، ولا يناقشون التعليم بل يرجعون كل شيء إلى لغة نقل المعرفة.
هذا بالضبط هو السلوك الهستيري، وهو ليس في نهاية المطاف سوى مظهر. بالطبع يمكن علاجه، ولكنه يعود كل مرة، من باب الانتهازية، لأن الشعبوية تحتاجه عكازا، نعم عكازا فقط !".