يحمل الغرب تناقضه المنفصم الذي يكبح سيره من أجل استكمال المسير مرة أخرى وبقوة أشد، فيتولد عن ذلك اختفاء أشكال ومعاني وظهور أخرى. مع الغرب مثلا تعلمنا أشياء لا متناهية حد الهجرة طوعا أو كرها من الشرق إلى الغرب.. تعلمنا على يد أعلام كبار.. وأضفنا إلى معجمنا الجامد عبارات غريبة ومستعصية على الفهم بالنسق الشرقي، بل إنها لم تحضر في الشرق بالزخم الذي حضرت به في الغرب رغم تلقفها منهم، من قبيل:l'aphasie / la schizophrénie/ bipolaire/ la diplopie/ l’amnésie واللائحة طويلة..
مع الغرب ذابت الخرائط باسم الكونية والعالمية ولم يتبقى لنا غير المساهمة فيها أو الخروج من كل سياق، وإن كانت المساهمة تتطلب مجهودا جبارا يقاس بمئات السنوات. لم تعد الصين أو اليابان شرقا ولا روسيا مثلهما.. لقد انتقلوا من الشرق إلى الغرب لأنهما بدلوا ما يجب بدله فتمكنوا من مجاوزة الغرب لكنها مجاوزة داخل دائرة الغرب .. ليس الغرب انتماءً جغرافيا بقدر ما أنه تجسيد لاكتمال التقنية، وترجمة للعدمية التي آمنت بوهم الإنسان كفرد ووحدته وإرادته وحريته، واندحار للعقل وتعرية لوهم فعاليته.. يتقدم الغرب عندما يضاد نفسه: أرسطو يعيد قراءة أفلاطون/ القديس توما الأكويني يتمرد على القديس أوغسطين/ تقف المدرسة الإسمية ضد الواقعية/ ويقف جون لوك ضد ديكارت/ شوبنهاور يستعيد من هيجل صرامة الروح المطلق معوضا إساها بإرادة الحياة/ كيركجارد يطلق العقل من أجل القلق الوجودي، نيتشه يقطع مع إرث فاغنر وشوبنهاور لصالح بيزي واسبينوزا وهرقليطس وشيء من الأبيقورية/ نيتشه وماركس وفرويد يعليان من سلطة الارتياب واللاشعور والصراع الطبقي على حساب اليقين والعقل والإرادة الحرة/ فوكو ودولوز ودريدا يدخلونا في عالم الجنون واللامعنى والهامش واللامفكر فيه... كأشياء تستحق منا عناء التفكير، بارث يعلمنا لأول مرة كيف نقرأ النصوص، والبنيوية تجرنا جرا نحو الخفي الذي تظهر بواسطته المعاني والأشياء.
الغرب هو الذي قرر الجمع بين السياسة والدين عندما تبنت الإمبراطورية الرومانية، المسيحية كدين رسمي لها، لكنه سيأتي بعد ذلك كي يضع حدا بين السياسي والديني إبان عصر النهضة، انطلاقا من أن الدين لله والوطن للجميع.. سيقدس غرب الأنوار فكرة التقدم، لكنها ستُهدَّم بعدئذ باسم البنيوية وفلسفات اللاشعور.. غرب الأنوار يعطي المركزية للإنسان، وغرب القرن الماضي ينزع هذه المركزية معليا من اللغة والجسد والخطأ.. غرب الأنوار سيمهد للرأسمالية التي اعتبرت مخلصا للقهر الفيودالي /الإقطاعي.. بيد أن نمط الانتاج هذا سيتحول إلى كابوس يستغل ويحصد كل شيء أمامه من أجل الربح. غرب القرن التاسع عشر سيعمل على تهديم صرح الرأسمالية من أجل الاشتراكية، والتي ستتحول بدورها إلى كابوس في القرن العشرين. فما الذي يجعل الغرب منفصما مع نفسه إلى هذا الشكل؟
مشاكل العالم أصلها الغرب، والحلول أيضا تأتي منه وإليه، صراع الكبار الذي تجلى في الحربين العالميتين، هو في الأصل صراع بين الغرب والغرب، وذلك بغرض الاستحواذ على كل الشرق وجزء من الغرب.. لا أحد بإمكانه انتقاد الغرب غير الغرب، فإذا ابتسم يبتسم كل العالم بما فيه الشرق البائد، وإذا كشر عن أنيابه يداريه الشرق ويتودد إليه من أجل البقاء، البقاء فقط بغض النظر عن طريقته وشكله والوجه الذي يظهر به. حينما أعلنت منظمة الصحة العالمية أن فيروس كورونا بات جائحة لا تبقي ولا تدر، اتجهت كل أصابع الاتهام إلى الغرب، لكن من طرف الغرب أنفسهم، وحينما بدأ البحث عن اللقاح كان الشرق ينتظر حصته، والحاذق من الشرق ليس من ساهم في صناعته وإنما سيحتفل جزء منه بداعي أنه أول من توصل باللقاح. الشرق ينتظر تسويق اللقاح دون تكليف نفسه عناء البحث والتحصيل.. الغرب الذي شارك في الحربين العالميتين، والغرب الذي استعمر دول الشرق، هو نفس الغرب الذي يحصد كبريات الجوائز في العلم أو الفن أو الرياضة.. الغرب الذي قسم العالم إلى دول متقدمة وأخرى متخلفة تمت مواجهته من بعض الجهابذة بضرورة تسميتها بدول العالم الثالث لما تحمله كلمة "متخلفة" من نعت قدحي، وهذا أقصى ما توصلوا إليه، لكنه للأسف أقسى ما توصلوا إليه أيضا. عندما يتصارع الغرب يقرأ الشرق اللطيف وينتظر أي القوى سينحني لها إجلالا وتعظيما.. لا يعرف الغرب إلا الهيمنة والغلبة، ولا يتقن الشرق إلا الولاء والطاعة لمن سيغلب.. الغرب يهيمن لأنه يتجاوز نفسه باستمرار، بينما الشرق لا يعرف ماذا يعني التجاوز ولا يريد أن يعرفه بتاتا.
ما يحصل اليوم بفلسطين مشكل خلقه الغرب ذات يوم، وهو الآن يتفرج فقط دون أن يكلف نفسه عناء حله وإن كان الحل بيده وليس بيد الشرق، لهذا فحينما سيريد الغرب إنهاء العدوان سينتهي كأنه لم يكن. الغرب الذي يصنع الأسلحة كي يجربها في الشرق، والغرب الذي يبيعها للشرق كي يتقاتل فيما بينه، هو نفس الغرب الذي يحرك كواليس هيئة الأمم المتحدة، وهو نفس الغرب الذي ينادي بالسلام تم يصنع أفتك الأسلحة باسم فيزياء الذرة أي باسم العلم وجامعاته ومراكز أبحاثه الكبرى، وهو نفس الغرب الذي يصنف البعض ضمن خانة الإرهاب والبعض الآخر ضمن خانة المدافعين عن أنفسهم. فإذا أرادت روسيا مثلا القيام بما يقوم به حلف الناتو اتهمت بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان، بينهما تدخلها العسكري عدوان توجب إيقافه باسم الإنسانية، إلا أن ما يحصل هو مجرد حرب خفية بين القوى الغربية التي تريد الاستحواذ على الغرب.
الغرب غريب إلى درجة لا تطاق، إنه يجمع بين الفراغ والملاء الروحيين، إنه تجسيد حي للعدمية الارتكاسية، لكنه المنبع الأول لشتى أشكال الإبداعات سواء في المعمار أو الموسيقى أو الأدب أو الفلسفة أو الرسم أو النحت أو التصوير أو الموضة أو الطبخ أو اللعب... الغرب هو من تسبب في الانحباس الحراري، إلا أن دول الشرق هي التي تعاني أكثر من تبعات التقلبات المناخية وما يرافقها من تأثير سلبي على الاقتصاد والبيئة والصحة البدنية والنفسية والسكن والتعليم والنمو الديمغرافي... الغرب هو من اخترع موضة "الكوب" لمناقشة مشاكله لكن دون أن يصل إلى حل، بينما يكتفي الشرق بالتصفيق أو التفاخر بتنظيمه لدوراته والتفاخر أكثر بنجاحها. الغرب هو من أسس للقوانين المكتوبة والاتفاقات سواء المحلية أو الدولية، بيد أنه هو أول من يخترقها باسم القانون نفسه.
يتقدم الغرب عندما يغلي.. يتفوق الغرب حينما ينتفض على نفسه من أجل الانقضاض على الشرق. يتحرك الغرب دوما لأنه لا يحب التوقف ولا الوقوف، يتحرك حتى ولو كان تحركا على حساب أرواح الآخرين. غريب أمر هذا الغرب، إنه يقدم لنا المركزية ونقد المركزية في نفس الوقت.. كما أنه يتخذ القرار فيجد رفضا من مريبا من طرف مواطنيه يصل حد العصيان المدني. الغرب يزداد تغربا وتغريبا كلما انتقد نفسه واستعاد الضائع منها لصالح المأمول الذي ينفي نفسه تباعا.. لكن الغرب في نفس الوقت حلقة مفتوحة للذي يفهم سر اللعبة، وهو أيضا سد منيع للذي يطيع ويذعن وينحني إجلالا.. سيقبل منك الغرب الإيمان بما لا يمكن تصوره، وسيرفضك عندما تتبع ما اتبعه سلفا.. من ثمة، فإذا أردت أن تصبح غربا عليك أن تفهمه كي تتجاوزه وتتفوق عليه، المشكلة أنه حينما تتأتى لك هذه المعجزة ستصبح بدورك غربا إلى جانب الغرب، أما ما عدا ذلك فأنت مجرد شرق مفعول به.. وما أهون ذلك.