ما الذي حصل لتنسيقيات نساء ورجال التعليم حتى تعرف هذا الأفول وهذا الانهيار السريع والمتسارع؟ وما الذي تغير على مستوى الساحة السياسية والنقابية حتى ارتمت في حضن بعض الأحزاب والنقابات، وقد كانت ترميهم إلى حدود الأسبوع الماضي بشتى أنواع التخوين والانتهازية؟ ما سبب عودتهم برأس مطأطئ وهمة غير شامخة كتلك التي افتتحوا بها الاحتجاج ضد النظام الأساسي؟ ولماذا تغير خطابهم من التعنت إلى المساومة والليونة؟
لقد كان بقوة الواقع أن تأفل التنسيقيات في يوم ما، ولقد كان من الطبيعي أن تعرف انقساما حادا بين أعضاء مجالسها الوطنية، ولقد كان من المنطقي أن يتناقض خطاب رموزها مع متطلبات قواعدها، بل ولقد كان من الضروري أيضا أن تسقط في الكولسة والتخلص من هذا على حساب ذاك، وطرد كل الأصوات المعارضة لقراراتها، إضافة إلى التكتلات المرتبطة بالانتماء أو التعاطف الحزبي والسياسي الضيق.. كان سيحدث هذا الأمر في يوم ما، ولكنه كان صادما أن يحدث بهذه السرعة القياسية.
وإذا عدنا إلى خطاب التنسيقيات إبّان الإعلان عن النظام الأساسي الجديد، ثم نشره في الجريدة الرسمية وما تلاه من أشكال احتجاجية بعد 5 أكتوبر من العام الفائت ـ وحينما أتحدث عن التنسيقيات في هذا الباب، فإني أتحدث بشكل واضح عن التنسيقية الموحدة وتنسيقية أساتذة الثانوي التأهيلي، ثم التنسيق الوطني الذي يضم إحدى النقابات التابعة ضمنيا إلى حزب سياسي بإيديولوجية تعود إلى زمن ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي وجدار برلين ـ إذا عدنا إلى هاته التنسيقيات سنلاحظ أن الطريقة التي بدأت بها، غلب عليها الحماس الزائد والتهور غير محسوب العواقب، على حساب الحكمة والتريث قبل اتخاذ ما يلزم من قرار، وإذا عبرت في أكثر من مرة عن مواجهتها المباشرة ضد رموز ومهندسي وزارة التربية الوطنية، بل ومع الحكومة ككل ـ مادام أن القرار حكومي بما أنه وزاري ـ فإنها مواجهة لم تحتكم بتاتا إلى بعد النظر، بل وأكثر من ذلك، فقد كانت تتعامل مع ملفها المطلبي بطريقة النضال الجامعي، وكأن سحب النظام الأساسي شأنه في ذلك شأن مشاكل النقل أو الحي الجامعي... يجب أن يحتكم إلى صم الآذان بدل الإيمان بالتفاوض، خاصة وأن المعركة محسومة قبل أن تبدأ، بما أن الدولة بصفة عامة تملك ما لا تملكه التنسيقيات، وأول شيء تملكه هو التجربة في مواجهة مثل هذه الأشكال وأكثرها. لذلك فإن ما لم ينتبه إليه أشاوس التنسيقيات ورموزها ـ الذين غيروا من خطابهم بين عشية وضحاها ـ هو أن زمن الدولة ليس زمن التنسيقيات في شيء. زمن الأولى يقرأ الحدث بتراكم الماضي واستشراف المستقبل. أما زمن الثانية فإنه زمن ينغمس في اللحظة لأنه يغلب عليه الحماس والتهور، فينسى تراكم الماضي ولا يخطط للمستقبل. وإذا عدنا إلى خطاب الحكومة منذ الخامس من أكتوبر، سنلاحظ أنه خطاب زئبقي يتنطع دون أن يترك أثرا، بينما خطاب التنسيقيات خطاب جامد لا يريد أن يغير من جلده بتغير الواقع. وهكذا، فإذا ألقينا نظرة على مجمل القرارات التي اتخذتها الدولة وليس الحكومة، سنلاحظ أنها تحدثت عن شرح مضامين النظام الأساسي، ثم غيرته بالتجويد لتصل بعدئذ إلى التجميد فالتعديل وتنهيه بالتوقيف الذي طال مئات المدرسين.
وعلى مستوى التنسيقيات، سنلاحظ أن قواعدها كانت تدعو دوما إلى السحب الفوري ـ لنعد على بياناتها مثلا ـ لكن ما كانت تجهله هو أن من طبيعة الدولة كفكرة أولا وكيان ثانيا، إلجام وإسكات الأصوات المعارضة إما عن طريق الإغراء أو العقاب. لم تكن التنسيقيات تؤمن بمبدأ التفاوض، كما أن فقدانها للتجربة والحنكة لم يكن يعرف أنه من المستحيل تحقيق كل المطالب، فما بالك بأغلبها، وإذا أبدت الوزارة ليونة في التعامل مع المطالب فقد كانت ترسل العديد من الرسائل تحت الطاولة إلى التنسيقيات، بيد أن هذه الأخيرة لم تفهم فحوى الرسائل مما أربك بنية اشتغالها، وأضفى نوعا من التناقض داخلها. والحق أن هذا التناقض كان باديا منذ زمن ليس بالقصير، لدرجة أن العديد من المدرسين استشعروا الأفق المظلم، وقد كانوا يودون تغيير الأشكال الاحتجاجية، إلا أن مواقفهم كانت تُجابه دوما بالخيانة والجبن والخنوع. وإذا أردنا تسمية الأشياء بمسمياتها سنقول أن عددا من الأساتذة كانوا يريدون العودة حين تم إقرار الزيادة في الأجور، لكنهم أحجموا عن ذلك خوفا من رد فعل زملاءهم في التنسيقيات. وإذا أردنا أن نعرّي كل شيء، فإن فئة من رجال التعليم الذين أنهكهم الفصل الدراسي ولم يعد باستطاعتهم مسايرته، وجدوا في الإضراب حيلة لأخذ قسط من الراحة، بل إن المشكلة ستكون صادمة حينما نجد أن نسبة منهم لازالت شابة، أي لازال أمامها عمر مديد قبل الإحالة على التقاعد، فأي مستقبل للمدرسة العمومية أمام هاته العقليات؟
وفي ذات الجانب، وأمام حماس التنسيقيات الزائد، أصبحنا نسمع بمطالب لا تمت إلى حنكة رجل التعليم بصلة، مثل هيمنة المطالب الفئوية، أو تلك التي تطالب بالزيادة بالأجور بنسبة %100 أو التي تدعو الدولة إلى أن تقدم اعتذارا رسميا جرّاء المجزرة المعنوية التي مارستها في حق رجال التعليم، وبدل أن تعتذر الدولة كما كانت تحلم التنسيقيات، فقد قامت بتوقيف العديد من الأساتذة، وها نحن نرى كيف أن نسبة ساحقة من الذين كانوا يطلبون الاعتذار، تحسسوا رؤوسهم وابتلعوا ألسنتهم عند أول منعطف حازم، ثم عادوا إلى الفصول الدراسية بشكل يثير الشفقة.
لقد أخطأت الدولة حقا حينما أحاطت مُسَوَّدّة النظام الأساسي في سرية تامة، ولقد أخطأت ثانيا حينما كافأت الذين لم يناضلوا في الساحة على غرار المتصرفين والموجهين والمؤطرين التربويين، بينما أجهزت على حقوق نساء ورجال التعليم. أخطأت الدولة حينما كافأت باقي القطاعات كالعدل والصحة والمالية والداخلية بأنظمة أساسية تثمن وجودهم، بينما لم تفكر في إصلاح نظام الترقية وإعادة النظر في الحصيص المعتمد، وإنشاء درجة استثنائية لأساتذة الثانوي التأهيلي، وتحديد ساعات العمل، والحسم النهائي في المهام المنوطة بالمدرس التي لا يجب أن تخرج عن التدريس والتقويم... وأخطأت النقابة بدورها حينما وضعت كل بيضها في سلة الوزارة (مع ضرورة فتح تحقيق واضح في الملايين التي تتوصل بها من المال العام، وضرورة خضوعها لمراقبة مفتشي المجلس الأعلى للحسابات، والوقوف عند حيلة التفرغ النقابي ونهب أموال دافعي الضرائب... وكل هذا لن يتم سوى بضرورة وضع نظام خاص بالعمل النقابي الذي بدأت رائحة فساده تزكم الأنوف أمام مرأى ومسمع من بيدهم الأمر) أخطأت النقابة ولازالت تخطئ في فتح ملف جد مهم، ألا وهو ملف تجويد المقررات الدراسية وإعادة النظر في العديد من المعضلات التربوية التي تحد من الرقي بمستوى التعليم، ويكفي أن نقف عند مستوى التحصيل الدراسي للمتعلمين، وكيف أنهم لا يتقنون أبجديات التعلم من قراءة وكتابة وحساب... حتى نعلم الحضيض الذي يقبع فيه التعليم ككل. وعليه، فإذا كانت الوزارة تؤمن حقا بتغيير مسار التعليم في المغرب إلى الأفضل، فإن عليها توفير ظروف مناسبة للمدرس. أو لنقل إن على جميع الأطراف المعنية الجلوس إلى طاولة الحوار، مع التأسيس لأرضية مشتركة: على الدولة أن تتجاوز انصياعها المطلق لإملاءات صندوق الدولي الذي خرب مستوى تعليمنا... على الجسد التربوي معرفة المهمة النبيلة الملقاة على عاتقه، وعدم النظر إلى التدريس كوظيفة أو مهنة، بقدر ما أنه مهمة تحمل من الرمزية ما لا يحمله غيرها... أما النقابات، فعليها أن تغير من جلدها وتضع الإنسان المناسب في المناسب، ثم تسقط المسؤولية عن زعمائها الذين يحبون كراسيهم إلى درجة القرف دون أن يخجلوا من ذلك. أما إذا لم تتحقق هاته الأشياء فإن تعليمنا سيبقى متذيلا الترتيب إلى أن ينتهي العالم بمن فيه وعليه.