بقلم: هادي معزوز
... بعد صمت طويل، قالت السيدة لصديقها الفيلسوف: ـ هل لي بقصة غريبة أطوارها..؟
ابتسم الفيلسوف متأملا هذا الطلب. كانت تعرف أن في جعبته قصصا لا تنتهي.. وكان يعرف أنها تتشوق دوما لسماعها، خاصة تلك التي يختلط فيها الحقيقي بالخيالي دون التمكن من الفصل بينهما. تناول سيجارة.. ضرب رأسها على الطاولة.. داعب ذقنه يحاول ترميم الأفكار والأحداث قبل عرضها.. وبقدر ما كان قليل الكلام على عادته، بقدر ما كان مسهبا حينما يتعلق الأمر بما هو فيه الآن.. تأملها مُطوّلا وقال:
ـ أول شرط أن أحداث القصة واقعية لكنها ليست حقيقية..
أومأت دلالة الإيجاب والفهم. فطفق يقول:
ـ قصتي ستدور حول وهمِ ما يراه الناس وما يعتقدون فيه، وما يظنونه حقيقة وإن لم يكن من ذلك في شيء.. قصتي يمكن أن تُعاد دوما مع اختلاف الأحداث والشخوص والأزمنة والأمكنة، إلا أن لها خيطا ناظما وهو إيهام الناس بأشياء من صلب ما يحدث، لكنها مجرد خيوط محبوكة بصرامة تديرها أياد خفية..
أشعل السيجارة وأكمل:
يُسلَّطُ ضوء الكاميرا على الغرفة، لا أحد هنا..! ولكي نتأكد من الأمر أكثر، دققنا العدسة في كل الزوايا بما فيها المعتمة. مرة أخرى لا أحد.. لا أحد سوى أثر شخص مر من هنا.. لحاف السرير لازال غير مرتب.. ضوء الحمام مشتعل ـ على الأرجح نسيه هكذا بعدما أخذ لنفسه دُشا على عجل ـ وقطرات منتظمة تنفلت من الصنبور بسلاسة محدثة صوتا روتينيا مزعجا خاصة لمن هم على مشارف الاكتئاب.. سماعة الهاتف منفصلة عن الجهاز وموضوعة بشكل مقلوب على المكتب.. يبدو أنه توصل بمكالمة على حين غرة.. وبغض النظر عن الكتب الموضوعة بغير ترتيب وبعض الأقراص المهدئة، تُلفت نظرنا ورقة مشوهة الشكل كأن صاحبها كتب فيها شيئا لم يرقه فقرر منحها ما لم تكن عليه.. فجأة وبدون سابق إنذار تنفلت يد آلية من الكاميرا وتتناول الورقة ثم تفتحها لتجد بها جملة مقتضبة: "حانت ساعة نهايتك...!" وتوقيعا صغيرا بخط رديء: العرافة. تعود اليد الآلية إلى حيث كانت، بينما تسافر عدسة الكاميرا خارج أعلى غرفة أفخم فنادق الدوحة. الأضواء البعيدة تتلألأ راقصة في دنيا الصمت الذي يلف المكان، كأن سكان المدينة غارقون في نومهم وما هم بذلك.
كان بودنا لو نتخيل كيف ستكون ردة فعله حيال الرسالة وجملتها المُقتضبة، بيد أن التسجيل الموضوع بالكاميرا استبق خيالنا الأدبي، ثم قدم لنا شريطا لما كان يقع بالصوت والصورة:
كان جالسا في مكتبه يقلب بعض الأوراق، يمضي على بعضها ويترك البعض الآخر. يرفع سماعة الهاتف ويتحدث بشكل مطول، وعلامات التوتر والغضب بادية عليه، وبين الفينة والأخرى يمسك رأسه بين يديه متكئا على المكتب بواسطة مرفقيه. كم شدنا الفضول لمعرفة ما يقول إلا أنه تعذر علينا ذلك. ولما تجسسنا على مكالماته عجز برنامجنا على ضبط مرجع وأرقام هواتف من تكلموا معه نظرا للصرامة والسرية التي تطبعها حياته. لكن وبعد بحث مطول تمكنا من التصنت على مكالمة وحيدة سجلنا مضمونها:
ـ مرحبا سيد (...)
ـ مرحبا سيدي الرئيس.
ـ أعتقد أنك اطلعت على الرسالة؟
ـ بطبيعة الحال.
ـ سنرسل إليك رسالة تتضمن موعد الخروج من الفندق والتوجه إلى المطار. نتمنى أن تمر كل الأشياء بسرية إلى حين وصولك عندنا، حينها ستكون في أمن وأمان.
رد باقتضاب:
ـ وهو كذلك.
نهض من المكتب تم وقف شطر القبلة وبدأ يصلي العشاء، أطال السجود والركوع، كانت علامات الخشوع واضحة المعالم على تقاسيمه كما جسده. ولما انتهى استدار عائدا نحو المكتب فإذا برسالة أدخلها أحدهم من تحت الباب، تناولها بحذر. وضع واقية على وجهه ثم فتحها برفق مبالغ فيه، ولما اطلع على مضمونها سحقها بيد يديه.. دار دورة الصوفي لحظة الوجد في غرفته مدة ليست بالقصيرة، ثم توجه إلى المكتب حيث وضع الورقة وبقي ساهما إلى أن رن هاتفه مرة أخرى. أخذ لنفسه حماما، ارتدى ملابسه الرسمية ثم بقي جالسا. ولما رن الهاتف مرة أخرى، نهض ثم غادر غرفته حاملا معه محفظة سوداء اللون.
قاطعت السيدة صديقها الفيلسوف قائلة:
ـ هل تم التوصل بعد ذلك إلى مضمون المكالمات الكثيرة التي كان يستقبلها؟ ومن هم أصحابها بالتحديد؟
داعب الفيلسوف شعره الطويل وقال:
ـ لم يتمكن البرنامج من ضبطها، لكنه تمكن من تسجيل مكالمة أخرى قام بها صاحب نفس الصوت الذي دعاه.
قالت بحماس:
ـ ولمن كانت موجهة؟
رد باقتضاب:
ـ لم يستطع البرنامج التعرف على ذلك، إلا أنه سجلها.
ـ ماذا قالت؟
نهض الفيلسوف برفق، مرر أصابعه على رأس صديقته، ثم سار ناحية الباب وهو يقول:
ـ لما تأكد لصاحب الصوت أن ضيفه في طريقه إليه، اتصل بشخص آخر يكلمه باللسان العبري: سيحل بيننا على الساعة العاشرة صباحا من يوم غد.. ثم سيشارك معنا الحفل بداية من الساعة الثالثة. يمكن أن تميزوه بواسطة حراسه الشخصيين الذين يرتدون سترة لونها مغاير لباقي الحراس.
أجابه الصوت باقتضاب:
ـ لقد حانت نهايته..
فتح الفيلسوف الباب برفق، نظر إلى صديقته بنصف عين، ثم غادر المكان كأنه لم يكن.