ـ هادي معزوز ـ
هل كنا سننتظر نص البلاغ الذي أصدرته المندوبية العامة للسجون وإعادة التأهيل يوم 07 غشت الجاري؟ كي نقول بدورنا: حقا إن السجون تعاني من الاكتظاظ، وأن النزلاء خاصة "البّاجدة" منهم لا يجدون مكانا ليجلسوا فيه ـ حين توزيعهم أو "الفيكتاسيون" بلغة السجن ـ فما بالك بمكان يتخذونه مرقدا لهم من أجل النوم، وما أدراك ما نوم السجون المكتظة خاصة خلال فصل الصيف الحار.
ليست السجون مكانا للترفيه وتزجية الوقت، وهذا أمر مشروع بلغة القوانين، ولكنه ليس مشروعا بلغة الأخلاق التي ترى في السجن مكانا لإعادة التأهيل وليس فضاء تنتهك فيه ما تبقى من آدمية الإنسان، ولقد عرفت السجون المغربية منذ بداياتها حالات متعددة لفقدان السيطرة على نفسها، المشكلة أن التطبع استحال طبعا، ولنا في ذلك أمثلة عديدة سنوردها في مقبل السطور.
إلا أن المثير في ذلك وهو أمر لا يختلف حوله أحد، ابتداء من المندوبية إلى المرصد المغربي للسجون مرورا بالنيابة العامة والقضاة والمحامين والأمن وجمعيات المجتمع المدني.. أن السجون المغربية باتت مشتلا لصنع "المجرمين" بالنسبة لأغلب من يلجها، أما الذين يملكون ماضيا لا يستهان به في الزنازن، فقد أضحى هذا الأخير بالنسبة لأغلبهم، مورد رزق من خلال بيع الممنوعات والتجارة في كل شيء، بدءا من حماية المغلوبين على أمرهم، إلى بيع أنواع المخدرات حسب شهادات حية لنزلاء رأوا هذا الأمر بأم أعينهم، بل إن منهم من شارك فيه سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة..
تختلف حياة "الحبس" تمام الاختلاف عن حياة "السيفيل"، والنزيل الفطن هو الذي يعرف تمام المعرفة "كيفاش يدوز حبسو" سواء من الناحيتين المادية من خلال التجارة في كل شيء، أو الرمزية كنيل شرف "شاف شومبري" أو التمكن من "حْكيم الكروة" وفرض القانون الذي يلائمه هو وأتباعه. بحيث يعيش في بحبوحة من أمره عكس المغلوبين الذين يعدون الدقيقة عاما ثقيلا طويلا.
ومن بين مظاهر الاكتظاظ التي كانت ولازالت تخيم على السجون، أن النزلاء الذين لا يملكون أسرة، يتناولون "الرولو" أو "البيضونصي" ثم يقومون بصنع فراش في الأرض شريطة ألا يزيد عرضه عن "ربعات الشبورا" سيء الحظ هو من يضع رأسه على باب "الفيسي" ولكم أن تتصورا حجم العذاب النفسي الذي يمكن أن يلحق به، كلما تردد أحدهم على المرحاض الذي يشترك فيه أكثر من خمسين شخصا في غرفة تتسع مبدئيا لستة إلى ثمانية أشخاص على الأكثر.
أما سيء الحظ من الدرجة الثانية فهو الذي ينام جالسا أو يضع رأسه بمحاذاة "الكريا" فسيكون أول ضحايا "دقة الساروت" إيذانا بما يسمى ب "لابيل" أما إذا أراد أن يثور على وضعه، فسيجد نفسه داخل دائرة "مساوس الحبس" عرضة لجميع أشكال التنكيل والاعتداء الذي قد يصل إلى "الخامية" في بعض الأحيان.. وسيبقى على هذه الحالة إلى حين أن يتم إدراجه ضمن المهددين بمصطلح "التصوبين".
المحظوظون هو الذين يكسرون أحيانا نظام الأدوار، طبعا يرقدون في مراقد لها بعض المواصفات، فهم يفضلون مثلا "البياص" على الشواية" ويفضلون النوم بجانب "الكليمة" أي النافذة بدل النوم في وسط "الشامبري" التي تجعل النزيل مراقبا من طرف الجميع.
إن الاكتظاظ من شأنه أن يزيد "المجرم" في درجة إجرامه، حيث يشترط أن يكون مالكا ل "حادة" أو "توبيا" مع نصيب مهم من سنوات السجن وقد قضاها سلفا، وما يرافقها من التعمد في إلحاق الأذى بالآخرين كي ينعم بمكان أو مرقد أكبر بقليل من باقي الأمكنة، إلا أن قيمته في "الحبس" لا تضاهى بقيمته في "السيفيل" وإن كان الكل معرضا للحشرات خاصة الصغيرة جدا منها، سواء تلك التي تقيم في شعر الرأس أو تلك التي تتكاثر في الأغطية وتتغذى من أجساد النزلاء مباشرة، ناهيك عن الصراصير بأنواعها وأحجامها.
كلها مظاهر لا ينكرها أحد مهما بالغ في تفاؤله، والظاهر أن قائلا سيقول أن ما يصيب السجين شكل من أشكال العقوبات الردعية، إلا أننا لو نظرنا إلى الأمور بعين أخرى، فسنقول أن السجن وجد لإعادة تأهيل النزيل وإعادة إدماجه أيضا، صحيح أن العقاب جزء لا يتجزأ من فلسفة السجن وشرط وجوده، لكن المساس بكرامة الأشخاص وآدميتهم من شأنه أن يولد ضغطا لدى النزيل، مما يجعل السجن بالنسبة إليه إضافة نوعية ستساعده في حياة "السيفيل" على فرض ذاته من باب العدوانية، تكفينا عبارة "مدُوّزْ المدرسة" كي تبين لنا بالملموس أن السجن استحال إنجازا للعديد من الأفراد بعدما فقدوا الأمل في كل شيء.
ذلك إذن هو واقع السجون بصوره ولغته الخاصة ونظرته الفريدة إلى العالم..! ومن هنا فكيف يمكن التعامل مع سؤال اكتظاظ السجون؟
أولا: يجب على العقاب أن يرتبط بتحديد العقوبة السجنية بداية، وعدم تأخير البث في الحكم تفاديا للسجن الاحتياطي، إضافة إلى فتح باب النقاش بشكل جدي بخصوص العقوبات البديلة، وتحديد معالمها وشروطها وحدودها، آنئذ سيتم التخفيف شيئا ما من الاكتظاظ.
ثانيا إذا تعاملنا مع اليومي في السجن من خلال الصرامة في مواقيت الأنشطة وإعادة ضبطها، وعدم السماح لبعض السجناء من الانتقال بين "الكراوي" وطوابق الجناح لغاية كلنا نعرف دواعيها، ومعاقبة الذين يرتكبون جرائم داخل السجن ب "كاشو" لا يبقي ولا يذر، ومكافأة أصحاب حسن السيرة والسلوك بالتمتع ببعض الامتيازات لعل أهمها تخفيف مدة العقوبة السجنية، وعدم التعامل مع الأجنحة بطريقة تراتبية، ولنا في سجن عكاشة خير مثال بين الجناح 1 من جهة وباقي الأجنحة خاصة الثاني والرابع والسادس. أما إذا تم التعامل بشكل صارم وقاس مع تجار الممنوعات بحمل شعار "زيرو مخدر" آنذاك سنعلم أن للجميع غيرة حقيقية على أبناء الوطن بدل الكلام دون فعل، لكن شريطة ربط هذا الأمر بإنشاء مراكز داخلية للمدمنين وإعادة النظر في مستشفى السجن سواء من خلال عدد المشتغلين فيه أو الآليات التي يدبر بها.
ثالثا، لا يعقل أن تكون العقوبة مرتبطة بالبقاء في السجن طوال اليوم، خاصة وأن الميزانية التي تدبر بها شؤون النزلاء، ممولة من جيوب دافعي الضرائب، بل على السجون أن تشغل ساكنيها في الفلاحة والصناعة والابتكار مع تخصيص تعويض خلال نهاية الفترة السجنية، حينها سيعرف النزيل أن الذهاب إلى السجن لا يعني الأكل والنوم والتجارة واللعب، وإنما عمل وجهد بدني وذهني بإمكانه أن يساعده حتما على إعادة تأهيله وإعطاءه درسا في الحياة، أما إذا لم يُرتدع فإن حالة العود يجب أن يعاد فيها النظر، وأن يتم التعامل معها بشكل جد صارم وقاس.
رابعا، على بعض الوزارات أن تقوم بالتنسيق بينها من أجل السجين الذي يكلف الدولة ميزانية محترمة من خلال توظيف الشرطي وموظف السجن والقاضي، فمثلا يجب قراءة سلوك السجين أو "المجرم" بناء على الواقع الذي يعيش فيه، وأنه ضحية للعديد من العوامل كالتفكك الأسري والهدر المدرسي والسكن وسوء التربية.. ومن هنا، فما الضير إذا قامت وزارة التربية الوطنية بالتنسيق مع المندوبية ووزارة العدل ووزارة الداخلية ووزارة الأسرة والتضامن ووزارة الإسكان، ما الضير إذا نسقت هذه الوزارات فيما بينها، عبر برنامج عمل متماسك يتعامل مع المواطن من ولادته إلى شبابه، تقدم له منتوجا تعليميا مثاليا، وبرامج إعلامية خالية من التفاهة، وأحياء سكنية تحترم آدميته بدل الصناديق التي لا يمكن إلا أن تكون لنا جيلا أغلبه يحمل الجريمة في جيناته المكتسبة؟ لماذا لا نشجع الناشئة على الرياضة من خلال برامج الرياضات المدرسية ونوادي ودور الشباب والمخيمات الصيفية.. ألا يمكن أن نصنع وطنا له إرادة حقيقية من أجل النجاح إذا تصرفنا وفق هذا الأمر؟ على العموم حينما تتحقق مثل هذه الأمور فإن اكتظاظ السجون سيتحول إلى قصة من الماضي السحيق.. ومن ثمة أختم قولي أن أهم وصفة نبني بها العقول والسواعد، لا تشذ عن تكوين الناشئة والاعتراف بقدراتهم ومنحهم أبسط أشكال العيش من حدائق وفضاءات رياضية يفجرون فيها مواهبهم، أما إذا تمادينا فيما نحن فيه، فإن الحل هو بناء سجون أخرى تفرخ مجرمين جددا وما أهون ذلك.