ـ هادي معزوز ـ
كلها مظاهر لا ينكرها أحد مهما بالغ في تفاؤله، والظاهر أن قائلا سيقول أن ما يصيب السجين شكل من أشكال العقوبات الردعية، إلا أننا لو نظرنا إلى الأمور بعين أخرى، فسنقول أن السجن وجد لإعادة تأهيل النزيل وإعادة إدماجه أيضا، صحيح أن العقاب جزء لا يتجزأ من فلسفة السجن وشرط وجوده، لكن المساس بكرامة الأشخاص وآدميتهم من شأنه أن يولد ضغطا لدى النزيل، مما يجعل السجن بالنسبة إليه إضافة نوعية ستساعده في حياة "السيفيل" على فرض ذاته من باب العدوانية، تكفينا عبارة "مدُوّزْ المدرسة" كي تبين لنا بالملموس أن السجن استحال إنجازا للعديد من الأفراد بعدما فقدوا الأمل في كل شيء.
هادي معزوز يكتب: دفاعا عن السجناء (الجزء الأول)
ذلك إذن هو واقع السجون بصوره ولغته الخاصة ونظرته الفريدة إلى العالم..! ومن هنا فكيف يمكن التعامل مع سؤال اكتظاظ السجون؟
أولا: يجب على العقاب أن يرتبط بتحديد العقوبة السجنية بداية، وعدم تأخير البث في الحكم تفاديا للسجن الاحتياطي، إضافة إلى فتح باب النقاش بشكل جدي بخصوص العقوبات البديلة، وتحديد معالمها وشروطها وحدودها، آنئذ سيتم التخفيف شيئا ما من الاكتظاظ.
ثانيا إذا تعاملنا مع اليومي في السجن من خلال الصرامة في مواقيت الأنشطة وإعادة ضبطها، وعدم السماح لبعض السجناء من الانتقال بين "الكراوي" وطوابق الجناح لغاية كلنا نعرف دواعيها، ومعاقبة الذين يرتكبون جرائم داخل السجن ب "كاشو" لا يبقي ولا يذر، ومكافأة أصحاب حسن السيرة والسلوك بالتمتع ببعض الامتيازات لعل أهمها تخفيف مدة العقوبة السجنية، وعدم التعامل مع الأجنحة بطريقة تراتبية، ولنا في سجن عكاشة خير مثال بين الجناح 1 من جهة وباقي الأجنحة خاصة الثاني والرابع والسادس.
أما إذا تم التعامل بشكل صارم وقاس مع تجار الممنوعات بحمل شعار "زيرو مخدر" آنذاك سنعلم أن للجميع غيرة حقيقية على أبناء الوطن بدل الكلام دون فعل، لكن شريطة ربط هذا الأمر بإنشاء مراكز داخلية للمدمنين وإعادة النظر في مستشفى السجن سواء من خلال عدد المشتغلين فيه أو الآليات التي يدبر بها.
ثالثا، لا يعقل أن تكون العقوبة مرتبطة بالبقاء في السجن طوال اليوم، خاصة وأن الميزانية التي تدبر بها شؤون النزلاء، ممولة من جيوب دافعي الضرائب، بل على السجون أن تشغل ساكنيها في الفلاحة والصناعة والابتكار مع تخصيص تعويض خلال نهاية الفترة السجنية، حينها سيعرف النزيل أن الذهاب إلى السجن لا يعني الأكل والنوم والتجارة واللعب، وإنما عمل وجهد بدني وذهني بإمكانه أن يساعده حتما على إعادة تأهيله وإعطاءه درسا في الحياة، أما إذا لم يُرتدع فإن حالة العود يجب أن يعاد فيها النظر، وأن يتم التعامل معها بشكل جد صارم وقاس.
رابعا، على بعض الوزارات أن تقوم بالتنسيق بينها من أجل السجين الذي يكلف الدولة ميزانية محترمة من خلال توظيف الشرطي وموظف السجن والقاضي، فمثلا يجب قراءة سلوك السجين أو "المجرم" بناء على الواقع الذي يعيش فيه، وأنه ضحية للعديد من العوامل كالتفكك الأسري والهدر المدرسي والسكن وسوء التربية.. ومن هنا، فما الضير إذا قامت وزارة التربية الوطنية بالتنسيق مع المندوبية ووزارة العدل ووزارة الداخلية ووزارة الأسرة والتضامن ووزارة الإسكان.
ما الضير إذا نسقت هذه الوزارات فيما بينها، عبر برنامج عمل متماسك يتعامل مع المواطن من ولادته إلى شبابه، تقدم له منتوجا تعليميا مثاليا، وبرامج إعلامية خالية من التفاهة، وأحياء سكنية تحترم آدميته بدل الصناديق التي لا يمكن إلا أن تكون لنا جيلا أغلبه يحمل الجريمة في جيناته المكتسبة؟ لماذا لا نشجع الناشئة على الرياضة من خلال برامج الرياضات المدرسية ونوادي ودور الشباب والمخيمات الصيفية.
ألا يمكن أن نصنع وطنا له إرادة حقيقية من أجل النجاح إذا تصرفنا وفق هذا الأمر؟ على العموم حينما تتحقق مثل هذه الأمور فإن اكتظاظ السجون سيتحول إلى قصة من الماضي السحيق، ومن ثمة أختم قولي أن أهم وصفة نبني بها العقول والسواعد، لا تشذ عن تكوين الناشئة والاعتراف بقدراتهم ومنحهم أبسط أشكال العيش من حدائق وفضاءات رياضية يفجرون فيها مواهبهم، أما إذا تمادينا فيما نحن فيه، فإن الحل هو بناء سجون أخرى تفرخ مجرمين جددا وما أهون ذلك.