عادة ما أقضي عطلة نهاية الأسبوع بمدينة البئر الجديد، التي تتواجد بين مدينتي الدار البيضاء والجديدة. ولقد أحببت المقام فيها لما تحمل من روح خاصة بها في وجداني. وفي المقابل من ذلك، لم يكن الفرنسيون زمن الحماية أغبياء حينما قرروا تشييدها، وأطلقوا عليها اسم "سان إبير"حيث بنوا صرحها الذي لازال شاهدا لحد الساعة على تنظيمهم الصارم ومعمارهم البهيج من خلال وضع كل شيء في مكانه المناسب. اختاروا ذلك المكان تحديدا لما يتمتع به من خصائص طبيعية خلابة، تجمع بين الأطلسي وغابة الشياظمة والسهول الممتدة بامتداد البصر، ناهيك عن هوائها النظيف، ورياحها الرطبة، وغطاءها النباتي، وأرضها التي كانت تجود إلى عهد قريب بمختلف أنواع الخضر..هكذا كانت المدينة الصغيرة الهادئة إلى أن وقعت الواقعة..!
وهكذا لم تعد اليوم على ما كانت عليه، وإذا أراد شخص أن يتعرف على حياة الناس زمن القرون الوسطى، فما عليه إلا أن يتجول بين أزقتها ودروبها وبناياتها التي لا تمت للمعمار بأية صلة، تأملوا بشاعة مدخلها من ناحية الطريق السيار حيث العشوائية والقاذورات ودور الصفيح والطريق الاسفلتي الضيق الذي يذكرنا بزمن الخمسينات وما قبلها.
تأملوا بداوتها التي تظهر أينما ولّيت بصرك، وتأملوا نشازها والتهميش الذي طالها، تهميش أُصيبت به من طرف من تكالبوا على تسييرها، ولو كانت من نصيبها وحظها أن قام بأمرها رجال غيورون على محبة الوطن، ومسؤولون يميزون بين ما لهم وما عليهم، لكانت من بين أكبر المدن الإيكولوجية بالمغرب، ولكانت تعج بالسياح الذين يرغبون بالإنصات إلى هدوء الطبيعة، وتكسير جحيم وصخب المدن العملاقة، خاصة تلك التي تحيط بها.
مناسبة هذا الكلام الزيارة الملكية للمدينة، من أجل الوقوف عند إعطاء الإشارة الأولى لبناء أكبر محطة تحلية ماء البحر بالمحيط الأطلسي. والتي كانت مبرمجة يوم الأربعاء الماضي إلا أنها تأجلت. لكن دعونا نعود إلى المدينة قبل وبعد موعد الزيارة الملكية، بدون استحياء كان القائمون بشأن المدينة منكبون على قدم وساق يقومون بطلاء الأشجار التي سيمر منها الموكب الملكي، إضافة إلى ترميم "شبه سور" السوق الأسبوعي الذي خصصت له ميزانية ضخمة، إلا أن منظره البشع، فإنه لا يشذ عن بشاعة المدينة ككل. أما الشوارع التي تتقاطع مع شارع محمد الخامس الذي كان مكتوبا أن يمر منه الموكب، فإن حفره الكثيرة لازالت شاهدة على فساد المسيرين من جهة، وصمت الساكنة من جهة ثانية، ويمكن الاستدلال مثلا بشارع الساقية الحمراء.
فساد مدينة البئر الجديد يعود بالدرجة الأولى إلى من مُنحت لهم المسؤولية، سواء كانوا منتخبين أممسؤولين مسيرين تابعين لوزارة الداخلية، ولقد حان الوقت أن يتدخل المجلس الأعلى للحسابات وأن يتدخل الوالي امهيدية الذي قرر إعادة ترتيب بنية تسيير أهم جهة بالبلاد، حان الوقت أن يتدخلوا من أجل محاسبة كل الذين مروا على تسييرها، لكنهم فاقموا مشاكلها الماضية والحالية. إذا لا يعقل أن تخلوا مدينة من فضاءات عمومية، بل حتى الحديقة اليتيمة التي تركها الفرنسيون، أصبحت اليوم مرتعا للمشردين والسكارى ولممارسات لا تعد ولا تحصى، في حين أنه لم يفكر أي قائم بشأنها على ترميم الأولى التي تعود إلى قرن ونيف، وتشييد حدائق أخرى لساكنة مدينة باتت تعرف انفجارا ديمغرافيا رهيبا.
وإذا عرجنا إلى اكتظاظ مدارسها فحدث ولا حرج، وقد نستحيي عن غياب أماكن للترفيه من فضاءات رياضية وملاعب للقرب، ومساحات خضراء.. بل حتى ملعبه البلدي لا فرق بينه وبين مزبلة عشوائية خصصت لرمي النفايات وأشياء أخرى. وأستغل هذا المقال للتساؤل حول مصير المسبح البلدي الذي لم يتم افتتاحه رغم مرور سنوات طويلة على إنشاءه، شأنه في ذلك شأن القاعة المغطاة ووعاء جديد للسوق الأسبوعي. أما إذا أردنا تسمية الأشياء بمسمياتها، فلنا في تجزئة "خولة" مثالا لفساد أحد المسيرين الجماعيين الذي نال ما نال ـ والعهدة على من روى ـ كي يتم بناء التجزئة دون إدراج أي مرفق اجتماعي بها، وبما أن التكرار جبلّة جُبل عليها مسيرونا، فإن تجزئة تُبنى الآن على حساب الأراضي الفلاحية، تم تصميمها دون أي مرفق عدا بيوتها وأزقتها فقط، مع ما رافق هذا القرار من صفقات مشبوهة. لكن ماذا تنتظر من أشخاص وصلوا إلى الحكم بورقة نقدية من فئة 200 درهم أمام مسمع ومرأى الجميع؟ وماذا تنتظر من مسيرين مستوياتهم الدراسية كافية لإعطاء الصورة الحقيقية لمن وُكّل إليهم أمر تسيير مدينة، كانت نموذجا يحتذى به زمن الحماية، فباتت اليوم خرابا يوقظ فينا نظم مقدمة طللية بلغة الشعراء؟ اسالوا الناس كيف تم بناء حي عشوائي أطلق عليه اسم "دوار دراعو" نسبة إلى الذراع وما يحمله من رمزية القوة التي تجسدت في الاستحواذ على الأراضي وتشييد بيوت قصديرية على مرأى ومسمع من الجميع.
على العموم، لابد من التأكيد أن الحركية التي تعرفها الشوارع التي سيمر منها الموكب الملكي، ستخمد بطبيعة الحال حينما ستنتهي الزيارة الملكية، وفي هذه لوحدها إهانة للجميع.. لكن المسؤول الأول والأخير عما حصل ويحصل، هم الساكنة الذين بصمتهم يؤكدون فساد من يدبرون أمورهم اليومية. في انتظار أن يتدخل الوالي امهيدية بصرامته، والقضاء بحزمه أمام الفساد المشتري، واستدعاء المسيرين السابقين والحاليين، أقول قولي هذا وأنسحب في صمت.