هادي معزوز يكتب: يوميات مجاز رفقة نفايات الدار البيضاء

تيل كيل عربي

بقلم: هادي معزوز

          ... تسير شاحنة النفايات على يمين الطريق الإسفلتي. سائقها من كثرة تكراره لعمله قبل سنين من الآن، بات بإمكانه سياقتها بأعين مغمضة دون الانزياح عن مساره، أما رائحة الأزبال الكريهة فإنها لم تعد قادرة على النيل منه ولا بات متذمرا منها. كان كثير التثاؤب رغم أنه كثير النوم، لكن ما كان يميزه، رأيه في وجوده، يقول مثلا: "لا يمكن تصور حياتي دون الأزبال والقاذورات! فقد عشت معها منذ أن قادني والدي بوساطة صديق له إلى البلدية، كنت لا أزال يافعا، وبما أني قررت الانقطاع عن الدراسة، فقد عوقبت بهذه المهنة، ثم بدأت أتسلق المهمات إلى أن أصبحت أسوق هذه الشاحنة المهترئة وكلي سعادة.

الأزبال بالنسبة إلي عنوان لحياتنا، لا نتخلص منها بل هي التي تتخلص منا. وإذا أردت التعرف على طريقة حياة أحدهم، فما عليك سوى النبش في كيس قمامته..." كان كثير الكلام يمزج بين الجد والنصيحة وسب رجال السياسة ونعتهم بأقدح الصفات. يقول مثلا: "لقد نسي فلان ماضيه حينما كان مجرد بائع للسجائر المهربة والكحول الرديئة، ولما فتح له القدر يديه، وأصبح يخالط خاصة الناس، انقلب فجأة إلى مُضارب يبيع ويشتري كل شيء بما فيه ذمم الناس وأصواتهم في الانتخابات..." سائق الشاحنة ثرثار كبير. يغني بصوت مرتفع أغاني تفوح منها القذارة والإيحاءات الجنسية. ولما ينتهي من ذلك يدير شطر لسانه السليط نحو مسؤولي مجلس المدينة والمنتخبون ورجال السلطة فيقول: "كلهم مرتشون بدون استثناء، إذ كيف تفسر لي قيمة وماركات لباسهم ومساكنهم الراقية وسياراتهم الفاخرة برواتبهم التي لا تكفي جزءا صغيرا مما يظهرون؟" يطلب من الله أن يعاقبهم لأنه هو القادر على ذلك، ثم ينتقل بعدئذ إلى أخبار الأندية الرياضية وصفقات اللاعبين. كان دوما يتعجب من أمري ويقول لي: "ما الذي جعلك بيننا وأنت الطالب الحاصل على إجازة يمكنك أن تصنع بها العجب." ثم يستدرك فيقول: "من الصعب الحصول على وظيفة اليوم. أبناء الأغنياء يملكون كل شيء ويتركون لنا نحن الفقراء الفتات الذي نتقاتل حوله. على العموم مرحبا بك في عالم الأزبال والنفايات والمزابل."

          كنت أبتسم دوما أمام ما يقول، كان جريئا لا يترك شخصا إلا وذكره باسمه بفساده وكواليسه الخفية، لكنه كان شخصا جادا في عمله بطريقة يصعب وصفها. ولقد كان صادقا ساذجا حينما كان يعتبرنا أسيادا وما نحن بأسياد. وبدوري وجدت في هذا العالم فضاء مثيرا للتأمل. عالم تعرفت فيه على ما لم أعرفه سلفا. نستيقظ في الصباح الباكر، نرتدي لباس العمل والقفازات السميكة ثم نحدد نقطة الانطلاق. نتوقف عند حاويات القمامة، نحملها بطريقة ميكانيكية نحو الشاحنة التي تعصرها عصرا، ثم نكمل مشوارنا إلى بلوغ نقطة الوصول، مع ضرورة تصوير كل الحاويات قبل وبعد الإفراغ. لم تكن رحلتنا تخلو من الغناء والنكث والسخرية من القدر والإشارات البذيئة.

          ينظر إلينا الناس نظرة دونية، ينظرون بحقارة إلى ما نقوم به وإن كنا نجمع أوساخهم. منهم من يتعاطف ويقدر مجهودنا فيمدنا بالشاي والخبز والبيض المسلوق والزيتون، لم أكن أشارك فريقي الأكل بداية، كنت أشعر بالخجل من أن يراني بعض الذين يعرفوني، أو تراني زميلة درست معي وقد كنت إلى عهد قريب من المتفوقين في الدراسة، لكن مع مرور الوقت وبتشجيع فاحش من سائق الشاحنة، أصبحت أجلس وأتناول معهم ما يُقدّم لنا، بل حتى دون التفكير في غسل يدي، بداعي أن الاختلاط الكبير بالأوساخ والقاذورات من شأنه أن يقوي المناعة ـ على حسب قولهم ـ عكس أبناء الأغنياء الذين لا ينقطعون على الذهاب إلى الطبيب بسبب مناعتهم اللطيفة.

          ما تعلمته حينما أصبحت عامل نظافة لم أكن لأعرفه لو لم أجد نفسي جزءا لا يتجزأ من منظومة القمامة. ولكم كنت أقدم الكثير من الملاحظات إلى المسؤول المباشر عني، لكن دون إيجاد حل يذكر، لأن الحل بيد عقلية السكان التي من الصعب أن تتغير في رمشة عين.

          ثم أصبح مقعد المسؤول عن إحدى المقاطعات شاغرا، ولما تقدمت إليه رفقة العديد من المرشحين تم اختياري بفضل تجربتي مع القمامة أولا، وسلوكي ثانيا، وانضباطي ثالثا، ناهيك عن شخصيتي الكتومة رابعا. أصبحت أملك سيارة الخدمة أتنقل بها هنا وهناك كي أقف عند كل كبيرة وصغيرة، لكن دون أن أنسى أصدقائي الذين كنت أجمع معهم حاويات القمامة. وكان سائق الشاحنة الثرثار كلما رآني، إلا وقال: "بارك الله فيك يا بني، لم تتغير ولم تُغيّر. كنت أتمنى لو كان المسؤولون مثلك لكن لله في خلقه شؤون." وعوض اتصالي المباشر مع الحاويات والأكياس... أصبح لي اتصال مباشر مع المنتخبين ورجال السلطة. فوجدتني داخل مستنقع نتن وسخ، فكنت مثلا إذا طالبت بتوفير الحاويات في الحي الفلاني أو الشارع العلاني، إلا تمت مقاومتي من طرف منتخب ما، وهو الذي يفكر بخلفية منصبه قبل أن يفكر في المصلحة العامة لمن صوتوا عليه. أما هؤلاء الذين يختارونه فحدث ولا حرج، ولكم تعجبت من نفسي حينما خلصت إلى أن الأغلبية الساحقة من الناس لازالت تنقصهم ثقافة رمي القمامة وترتيبها، بل إن بعضهم لا يخجل من نفسه حينما يرمي بقايا البناء داخل القمامة دون خجل، ولما كنا نضع ما يوجد في الحاوية داخل الشاحنة، تتعطل المعصرة التي يكلف تجديدها عشرات الملايين.

حينما اشتغلت على هذا الأمر بدقة من خلال إلمامي بما هو حاصل، وجدت أننا نبدد أكثر من أربعة مليار سنتيم في السنة، والسبب في ذلك عقلية الناس التي تلزمنا التضحية بعشرات السنين من أجل تقويمها. هذا دون الحديث عن الذين يسرقون الحاويات!!! هل من حل لكل ذلك؟ سأكون أحمقا إذا قلت أنه ثمة حل رغم أنه موجود وواضح للجميع، إلا أنه يُقاوم من طرف هؤلاء الجميع أنفسهم.. ماذا تبقى لنا غير الغناء وسط القمامة ولعن المسؤولين والمواطنين والقدر؟