بعد ثلاث سنوات من التوتر عقب قرار المحكمة الأوروبية إلغاء الاتفاق الفلاحي مع المغرب، أفلحت الرباط في تجاوز شَرْطَيْ القضاء الأوروبي وانتزعت اتفاقا جديدا مع بروكسيل. "تيل كيل" تميط اللثام هنا عن كواليس مفاوضات شاقة وعسيرة بين الطرفين وتكشف كيف استطاع المغرب تجاوز عوائق قانونية كانت تمس وحدته الترابية.
"كنت بالمغرب في مارس 2016.. ارجعوا إلى فيديوهات تلك الفترة.. كان الوزير نفسه (بصفة وزير منتدب آنذاك).. كان لطيفا جدا ولكن بابتسامة أقل.. كان الوضع متوترا بعض الشيء"، قالت فيديركا موغريني، نائبة رئيس المفوضية الأوروبية، الأربعاء الماضي بالرباط، عقب خروجها من لقاء مع وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي، ناصر بوريطة، الذي بدا فرحا عند استعادة هذه الذكرى القريبة.
ففي بداية تلك السنة، أعلن المغرب عن تجميد كل الاتصالات الرسمية مع الاتحاد الأوروبي، ردا على القرار الذي أصدرته الغرفة الثامنة للمحكمة الأوروبية في دجنبر 2015، تلغي بموجبه الاتفاق الذي يمتع المنتوجات الفلاحية المغربية بامتيازات في الأراضي الأوروبية. كانت الممثلة السامية للاتحاد الأوروبي المكلفة بالشؤون الخارجية قد حلت على عجل بالرباط، في محاولة للتخفيف من غضب المغرب، وتأكيدها أنه يظل "شريكا استراتيجيا لأوروبا".
أما في بداية 2019 هذه، فالأمر يتعلق بزيارة لـ"الاحتفال، وإعادة إطلاق وفتح مرحلة جديدة وأفضل بكثير في مسار علاقاتنا". فقبل بضع ساعات من وصول رئيسة الدبلوماسية الأوروبية إلى الرباط، كان البرلمان الأوروبي قد صادق بـ73% من الأصوات المعبر عنها، على تعديل في هذا الاتفاق الفلاحي يسمح للمنتوجات القادمة من جهتي الصحراء بالاستفادة من نفس النظام المطبق على المنتوجات بباقي مناطق المغرب.
وقد أغلق هذا التصويت قوسا دام ثلاث سنوات هيمن فيها ملف الاتفاق الفلاحي على العلاقات الثنائية بين الرباط وبروكسيل. قوس كان على المغرب أن يتجاوز خلاله غضبه واستعادة برودة أعصابه لتنفيذ خطة عمل شارك فيها كل الفاعلين السياسيين المغاربة لانتزاع اتفاق، حتى وإن لزم الأمر تحولا في موقف الرباط من القضية الوطنية.. قضية الصحراء.
وجعل هذا الانتصار كلا من الاتحاد الأوروبي والمغرب "يطمحان معا إلى تحقيق قفزة نوعية لبناء شراكة ذات بعد جهوي إزاء البحر المتوسط، والعالم العربي، وإفريقيا"، حسب موغريني.
وتم فتح "فصل جديد" يوم 17 يناير لما استقبل الملك محمد السادس الدبلوماسية الأوروبية بالرباط، وهو الأمر الذي لم يحدث من سنوات عديدة. وتكشف "تيل كيل" هنا أسرار هذه المعركة التي انتهت بالتقارب بين الجارين.
خطة مضادة
(...) بعد فورة الغضب التي أثار قرار المحكمة الأوروبية ضد الاتفاق الفلاحي في نهاية 2015، شكل المغرب، بتوجيهات ملكية، "لجنة قيادة" تضم كل من ناصر بوريطة، من وزارة الخارجية، عزيز أخنوش، من وزارة الفلاحة، عبد الوافي لفتيت، من الداخلية وياسين المنصوري من "لادجيد".
بعد قراءة متأنية للقرار بالتشاور مع رجال القانون المختصين، فهم المغرب والاتحاد الأوروبي أن المحكمة الأوروبية تضع شرطين أساسيين لتطبيق الاتفاق في الصحراء: أولا كانت هذه الهيئة القضائية الأوروبية تصر على ذكر "الصحراء الغربية" في نص الاتفاق؛ ثانيا، أكدت على ضرورة الحصول على موافقة السكان المحليين. إذاك شرع الطرفان في مفاوضات لإيجاد حل قانوني لهذين الشرطين.
انطلقت هذه المفاوضات في يونيو 2017، وأبدت الرباط ارتياحها لكون المفوضية الأوروبية أعطت طابعا سياسيا لأول جولة من خلال تمثيلها بـ"هيلغاشيمد"، الأمينة العامة لـ"المصلحة الأوروبية للعمل الخارجي". وعمل ناصر بوريطة رفقة هذه المسؤولة الأوروبية على تقديم "تأطير سياسي" للخبراء التقنيين الذين سيواصلون العمل خلال ثلاث جولات إضافية. ويقول أحد المشاركين في المفاوضات "إن المغرب يوقع الاتفاق باعتباره بلدا ذا سيادة بالصحراء، ولكن الاتحاد الأوروبي يعتبر أنه يوقع مع بلد يحكم مجالا موضوع نزاع بالأمم المتحدة. بالتالي، لم يكن ممكنا مناقشة وضع المغرب في الصحراء، لأننا لن نتوصل أبدا إلى اتفاق".
نقاشات القانونيين
انكب الخبراء التقنيون على إيجاد صيغة تجنبهم الإشارة إلى المجال الترابي للاتفاق، واعتماد بدل ذلك "مقاربة تقوم على المنتوجات". وهذه الصيغة جاءت في بضعة أسطر وتقول ما معناه: إن المنتوجات القادمة من الصحراء الغربية والخاضعة لمراقبة السلطات الجمركية المغربية تتمتع بنفس الأفضلية التجارية الممنوحة من طرف الاتحاد الأوروبي للمنتوجات التي يشملها اتفاق الشراكة.
كان من الضروري كذلك ضمان موافقة ساكنة الصحراء. ويقول مصدر مأذون بهذا الصدد "كان خصومنا يلوحون دوما بمفهوم الموافقة هذا مثل فزاعة، وكنا نترك لهم هذه الحجة. ولكن، نحن لدينا الجهوية الموسعة، لدينا منتخبون محليون، فلماذا لا نبرز هذا الأمر؟". وقبل المغرب أن ينخرط في اللعبة بشرطين: ألا تقتصر هذه الاستشارة على الصحراء فقط، وأن تتم في إطار أجهزته التمثيلية.
هكذا عبرت الغرف التجارية والمجالس الجهوية بكل ربوع المملكة عن موافقتها، فضلا عن لجنة الشؤون الخارجية بمجلس المستشارين. وأضاف المصدر ذاته "إنها سابقة، ولكن هذه الاستشارة كانت تمرينا جيدا، لأنه بإمكاننا الآن توسيع نطاق هذه الممارسة بما أن الاتحاد الأوروبي يعتبرها ذات مصداقية".
بعد حل قضية الإشارة إلى الصحراء وملف الموافقة، تم بسرعة تبادل رسائل موقعة بالحروف الأولى يوم 31 يناير 2018. وتمت الإشارة على رأس هذه الوثائق إلى كون الاتفاق الحالي تم التوصل إليه بعيدا عن تأثير "موقف الاتحاد الأوروبي من وضع الصحراء" و"موقف المغرب من هذه المنطقة".
معركة الإقناع
ولكن هذه لم تكن سوى المرحلة الأولى، وكانت هناك أجهزة أخرى بالاتحاد الأوروبي يجب إقناعها بجدوى ما تم التوصل إليه. وفي مقدمتها المجلس الأوروبي الذي يتشكل من وزراء البلدان الأعضاء بالاتحاد، وخاصة هنا وزراء الخارجية.
ويتعين إقناع الحكومات الـ28 التي يتألف منها هذا التكتل الأوروبي. ويقول دبلوماسي مغربي "لو كانت هناك أصوات ضدنا أو حتى امتناعات عن التصويت فهذا كان سيضعفنا.. هذا أمر سيء.. لذلك كان علينا القيام بجولات، وتحركات لإقناع الدول".
وكان الهدف الأساس يتمثل في إقناع ألمانيا وإنجلترا وبلدان شمال أوروبا. "بتكثيف المحادثات مع ألمانيا، انتهى بها الأمر إلى رفع ما كان سيشكل عائقا أمامنا، بل وتحول إلى فرصة سانحة في ما بعد". بعبارة أوضح، قبلت برلين منح موافقتها بشرط الحصول على رأي من المصلحة القضائية للمجلس الأوروبي يؤكد ملاءمة الاتفاق المعدل مع قرار المحكمة الأوروبية. وتبنت كل من الدانمارك وفنلندا وإيرلندا الموقف الألماني، وصوتت جميعا –بعد صدور رأي إيجابي من تلك المصلحة القانونية- لصالح النص إلى جانب برلين يوم 16 يوليوز 2018. وفي النهاية كانت السويد، العضو الوحيد الذي صوت بالمجلس الأوروبي ضد هذا الاتفاق التي انتقل بالتالي إلى المرحلة الموالية، وهو "على قاعدة سياسية متينة بما فيه الكفاية".
تحدي البرلمان الأوروبي
المرحلة التالية تمثلت في البرلمان الأوروبي. وكانت معركة الهيئة التشريعية الأوروبية شديدة الحساسية وغير مضمونة. وقال مصدر له صلة وثيقة بالملف "حصيلة المغرب بالبرلمان الأوروبي ليست إيجابية بالمرة. كان هذا تحديا حقيقيا جاء في سياق خاص جدا بالنسبة إلى أوروبا. أولا، أصبح التبادل الحر موضوع بوليمك سياسوي في عدة بلدان، وكانت هناك مخاوف أن يميل النواب الأوروبيون إلى تبني مواقف محافظة. ثانيا، كان النواب في نهاية ولايتهم (الانتخابات الأوروبية تجري في ماي المقبل) وليس لديهم ما يفقدونه. وفي ما يخص الاتفاقيات الدولية، لا يحبون أن يقدم له الجهاز التنفيذي نصا ليس عليهم سوى وضع موافقتهم عليه. يحبون أن يظهروا أن لهم هامشا للمناورة".
لضمان أغلبية مريحة، كان يتعين إقناع حوالي 500 نائب، من كل التوجهات الإيديولوجية والأصول الجغرافية، حتى وإن تطلب الأمر تقديم بعض التنازلات. أمام ضخامة وحساسية المهمة، شكلت "لجنة القيادة" المغربية "فريق عمل" مهمته ترجمة هذه التوجيهات إلى مخطط عمل مفصل ودقيق(...) كما تمت تعبئة كل الشبكة الدبلوماسية المغربية للقاء النواب الأوروبيين في بلدانهم الأصلية وإقناعهم. في بعض الأحيان، كان من الضروري المرور عبر العائلة السياسية لرئيس فريق برلماني وإقناعها بإعطاء توجيهات لنوابها لكي يصوت لصالح المغرب. كما تمت تعبئة قادة الأحزاب السياسية المغربية والبرلمانيين والمنتخبين المحليين لإقناع نظرائهم الأوروبيين بدعم الرباط(...) وبينما كان يعتمد على المكتب الفرنسي "ESL and Network"، استعان المغرب كذلك بخدمات "Cambre Associate"، المؤسسة البريطانية المتخصصة في اللوبيينغ التي لها معرفة كبيرة بالنواب الألمان والإيطاليين في البرلمان الأوروبي.
بدأت الرباط أولا بضمان دعم حلفائها في "الحزب الشعبي الأوروبي"، ثم ركزت على الاشتراكيين. كما عملت على التواصل مع كل لجنة على حدة؛ إذ قبل أن يعرض الاتفاق على التصويت في جلسة عامة، يقدم أولا إلى أربعة لجن موضوعاتية: الصيد، الفلاحة، الشؤون الخارجية، والتجارة الدولية. ولم تكن المهمة سهلة بتاتا مع هذه اللجنة الأخيرة التي تتوجه إليها معظم ملاحظات النواب الأوروبيين.
إشكالية "التعقب"
عبر الاشتراكيون عن رغبتهم في "تحصين" الاتفاق بإدخال "آلية للتعقب" (Mécanisme de traçabilité) لضمان استفادة "سكان الصحراء" (مفهوم أدخله الاتحاد الأوروبي) منه. لم يكن المغاربة متحمسون بالطبع لهذا الأمر، ولكن الاشتراكيين أصروا بل إن مصلحة الضرائب والاتحاد الجمركي التابعة لمفوضية الشؤون الاقتصادية، التي يشرف عليها الاشتراكي الفرنسي بيير موسكوفتسي، كانت واضحة وصريحة: الاشتراكيون الأوروبيون لن يصوتوا لصالح الاتفاق ما لم يتلقوا ضمانات حول مسألة "التعقب" هذه.
للخروج من هذا المأزق، وافق المغرب مع مصلحة الضرائب والاتحاد الجمركي على "نظام للإحصاء عند التصدير يكون مقره في المغرب، سيمكن من جمع المعلومات حول الصادرات المغربية نحو الاتحاد الأوروبي، من كل جهة على حدة. هذا النظام سيمكن من إرسال معلومات شهريا".
ونص الاتفاق، بشأن هذه النقطة، على تبادل المعلومات بين الطرفين "لأن المغرب يريد أيضا أن يعرف إن كان القمح الذي يستورد من بولوندا يستفيد منه البولونيون". اكتفى العديد من النواب الاشتراكيين بهذه الضمانة. وساهمت الحساسية الاشتراكية لمختلف الفاعلين في إنجاح المهمة، خاصة السفير أحمد رضا الشامي (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، وفيدريكا موغريني، وحتى الاشتراكي الفرنسي بيير موسكوفتسي عمل بكثافة خلال الأسبوعين الأخيرة لضمان التصويت لصالح المغرب(...).
وبعد مفاجآت بسيطة أخرى الأربعاء الماضي (16 يناير)، أقر البرلمان الأوروبي بستراسبورغ، على الساعة الواحدة زوالا، الاتفاق الفلاحي الجديد بـ444 صوتا مقابل 167 صوتا وامتناع 68 نائبا. وقال مصدر من الخارجية المغربية إن هذا التصويت يؤكد أن "صدمة قرار 2015 لم تدفعنا إلى الانغلاق كليا في بوتقة الغضب.. أكدنا أن حدوث أزمة ما ليس نهاية المطاف، وأن بإمكاننا التفكير بهدوء والبناء.. والقفز من جديد"....
عن "تيل كيل" بتصرف