لم يتردد نظام الحسن الثاني، خاصة في السبعينيات، في محاربة مادة الفلسفة والعمل على إقبارها، لأنها كانت تحث على تبني المعرفة الفكر النقديين اللذين كانا يشكلان خطرا على السلطة...
غداة الاستقلال، كان التعليم المغربي شبيها بنظيره في فرنسا، ولم تشكل الفلسفة استثناء. وكان للتلاميذ المغاربة في سنة الباكالوريا حظ اكتشاف أعمال الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون، أرسطو، نيشته، أو هيغل. "سنة الفلسفة هذه التي اعتمدها التعليم الفرنسي منذ زمن طويل لم تكن تروم تحويل التلاميذ إلى فلاسفة، بل فقط منحهم فرصة التعرف على أكبر مفكري الإنسانية طيلة سنة دراسية"، يقول نور الدين الصايل، الذي كان ضمن أول فوج لمدرسي الفلسفة المغاربة. ويضيف الصايل، الذي كان أحد مؤسسي "الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة" وأحد رؤسائها السابقين، أن "المدرسة العمومية المغربية ورثت البنيات البيداغوجية التي كانت معتمدة في التعليم الفرنسي".
وبما أن المدرسة مغربية فقد كان يلزمها مدرسون مغاربة. هكذا توجه، في عام 1963، تلة من الشباب المغاربة الذين كان يتطلعون إلى أن يصبحوا مدرسين للفلسفة، إلى كلية الآداب بالرباط حيث كان يدرس أساتذة معروفون مثل جون فيرا، المتخصص في الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط". كان بين هؤلاء الشباب، نور الدين الصايل، الطاهر بنجلون، حسن بنعدي.
وبعد تكوين المدرسين، كان يجب إعداد منهاج تعليمي. "كيف يمكن التميز عن تدريس الفلسفة بالطريقة الفرنسية، تدريس يركز على الميتافيزقا، يميل إلى المثالية؟"، يقول أحمد المتمسك، عالم الاجتماع ووريث الصايل على رأس الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة. وكان الهدف المتوخى هو التمكن من تدريس الفلسفة بطريقة "تلائم تطلعات المغرب، وتطلعات التلاميذ، وتطلعاتنا، نحن المدرسين الشباب للفلسفة. كنا نسعى إلى إرساء فلسفة تحررية، نقدية.. فلسفة تمكن التلميذ من امتلاك فكر نقدي"، يضيف المتمسك.
وكانت جميعة مدرسي الفلسفة مدافعة شرسة عن تصورها القائم على فلسفة تحررية، ولم تكن تتردد في إقصاء مدرسي الفلسفة الذين تلقو تعليمهم بالعربية بسبب طابعهم المحافظ والدغمائي(...).
التعريب.. "الفيروس القاتل"
في سنة 1970، جمع الحسن الثاني "الاتحاد الوطني لطلبة المغرب" ونقابة الأساتذة بمدينة "إيفران". وكان جدول الأعمال يضم نقطة واحدة: إضراب الطلبة الذي دام عاما كاملا. وانتهت عملية شد الحبل بين الطرفين بولادة قرار كانت له تبعات ثقيلة: إغلاق "معهد السوسيولوجيا"، الذي كان يشرف عليه عبد الكبير الخطيبي. ويحكي المتمسك قائلا "كانت الفكرة البديلة هي خلق شعبة السوسيولجيا في كلية الآداب، وهذا كان خطأ كبيرا لأن معهد السوسيولوجيا كان يدرس السوسيولوجيا النقدية التي كانت تعتني بتحليل المجتمع المغربي"(...) ولم يكن هذا القرار سوى مقدمة في المعركة الرامية إلى خنق تدريس الفلسفة. فبعد فترة وجيزة، زاد الوضع سوءا بسبب التعريب. "أمضيت سنتين رائعتين في تطوان، ثم بثانوية محمد الخامس بالدار البيضاء. ولكن بعد الإضراب فرضت وزارة الداخلية التعريب. وبما أنني لم أكن مهيئا لتدريس الفكر الإسلامي الذي كان جزءا من الفلسفة، فقد قررت الرحيل"، يقول الطاهر بنجلون، الذي يرى في التعريب معركة ضد التفكير النقدي. ويضيف الكاتب الحاصل على جائزة "الغونكور"، "كان قرارا سياسيا وإيديولوجيا يروم منع التلاميذ المغاربة من الوصول إلى النصوص المؤسسة لمفكرين مثل ديكارت، ونيتشه، وأرسطو، وسقراط، وهي نصوص تزرع الشك في وعي الشباب المغاربة".
فضلا عن تدريس الفلسفة، كان هذا الجيل الأول من المدرسين المغاربة يلقن التلاميذ "منهاجا" للتفكير، ويحثهم على تبني الفكر النقدي، وعلى قول "لا"(...).
سنوات الافتراس
بعد أن كانت تدرس بالفرنسية من طرف جيل من الشباب الشغوفين، تم تعريب الفلسفة بدورها في 1973. والنتيجة التي كانت متوقعة: أساتذة الفلسفة الفرنكفونيون يغادرون. وكانت هذه فرصة سانحة للأساتذة المحافظين، الذين كانوا مهمشين قبل تلك السنة. ويقول الطاهر بنجلون "كانت هذه هي الفرصة التي كان يحلم بها فئة من المدرسين الذين تكونوا بالعربية لغزو الثانويات". ويضيف نور الدين الصايل "حقيقة، هذا التعريب عبد السبيل لإرساء فكر محافظ في نظري؛ إذ كان يسهل تمريره باللغة العربية". (...) باختصار، كان التعريب يعلن أفول تدريس الفلسفة العصرية والمنفتحة.
وقد حاول أحمد المتمسك، ومحمد العيادي وزميل آخر الحد من الخسائر ما أمكن. وكان رأس الحربة في هذه المعركة هو تغيير المقرر المحافظ الموروث عن محمد عابد الجابري وأحمد السطاتي، اللذين كانا مفتشين في تلك الفترة. ويتمثل المقترح الآخر الذي دافع عنه المتمسك ورفيقيه في تخصيص ستة ساعات أسبوعيا لتدريس الفلسفة مقابل ساعتين فقط للفكر الإسلامي، مع حث التلميذ على التفكير بدل الحفظ. وقد تكللت جهود الرجل ورفيقيه بالنجاح جزئيا، لأن مقترحاتهم كانت القاعدة التي تأسس عليها البرنامج الدراسي الذي اعتمدته وزارة التعليم في السنة الدراسية 1976/1977. ولكن هذا لم يكن سوى ذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة.
هيمنة الفكر الإسلامي
لما تولى الاستقلالي عز الدين العراقي وزارة التعليم استدعى لجنة مصرية تتكون من أربعة مفتشين بينهم اثنان يمثلان جامعة الأزهر. وبعد أن قدمت هذه اللجنة تقريرها في سنة 1983، وجد العراقي بين يديه الوسيلة المثلى للقضاء على تدريس الفلسفة. فبالنسبة إليه ليست الفلسفة هي التي تحتوي الفكر الإسلامي، بل العكس هو الصحيح. وقرر العراقي، الذي سيترقى فيما بعد ويتولى الوزارة الأولى لسنوات عديدة، أن تترك الفلسفة مكانها للفكر الإسلامي. هل تصرف العراقي من تلقاء نفسه؟ هذا غير مؤكد تماما. ماذا كان دور الحسن الثاني، الذي كان يعتبر "المثقف الجائع" مجرد "مفترس"؟
أي دور للحسن الثاني؟
بعد أن تعرضت للضربات من كل الجهات، أخذت الفلسفة تلفظ أنفاسها الأخيرة. ويقول الطاهر بنجلون "لأول مرة كان نظام سياسي برمته منشغلا بمادة من مواد التعليم. ولم تكن هذه المادة هي الرياضيات أو التاريخ والجغرافيا، بل الفلسفة، فهم كانوا يرون فيها خطرا، لأنها تمنح المغاربة فكرا نقديا". كما أن أساتذة الفلسفة، وهم تقليديا ينتمون إلى اليسار، كانوا دوما متهمين بنشر الأفكار "التخريبية" و"التمردية". ويضيف بنجلون "أعتقد أن الحسن الثاني لم يكن يهتم بالتفاصيل. كان يكلف (الجنرال محمد) أوفقير و(إدريس) البصري، ويطلق يديهما". ويوضح الصايل من جهته "لم نكن نقوم بنوع من 'التبشير'، بل كنا ندرس الفلسفة النيرة". ويضيف المدير السابق للمركز السينمائي المغربي، الذي درس الفلسفة لعبد الإله بنكيران، الإسلامي الذي ترأس الحكومة السابقة، كما أشرف لفترة على محمد يتيم كمتدرب، "كما ترى، فأنا لم أغير توجههما". أما أحمد المتمسك فيقول "أن تكون الفلسفة مزعجة للسلطة، فهذا أمر لا لبس فيه، ولكن سيكون من باب الاستسهال أن نحمل مسؤولية موتها للحسن الثاني وحده".
فتح الباب للإسلاميين
"إن الحرب التي تم شنها على الثقافة الحديثة شملت الفلسفة كذلك، لأن السلطة، خلال الفترة الممتدة من الستينيات إلى الثمانينيات، كانت تعرف أن الفلسفة كانت تشكل خطرا على التقليدانية"، يقول المفكر نور الدين آفاية في تصريح لموقع "تيل كيل". ولكن بتقليص مجال الفلسفة لصالح الدراسات الإسلامية والفكر الوحيد، عبدت السلطة الطريق للتيار الإسلامي.
ولكن، يضيف أفاية "انطلاقا من نهاية التسعينيات وبداية العقد الأول من الألفية الثالثة، استوعبت السلطة السياسية الرهان الرمزي والسياسي للتأويلات الرجعية والإسلاموية للدين". وبفضل حكومة التناوب، أعيد إدماج الفلسفة في التعليم الثانوي. ويقول عمر عزيمان مستشار الملك محمد السادس: "منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش، أعيد إدراج هذه المادة وتعززت كمكون هام في التعليم المغربي، بمعدل ساعات يتراوح ما بين ساعتين وأربع ساعات أسبوعيا حسب الشعب، على مدى السنوات الثلاث لمستوى الثانوي التأهيلي".
ولكن الخسائر كانت كبيرة بل ربما غير قابلة للإصلاح. ويوضح عبد الله ساعف، وزير التربية الوطنية الأسبق في حكومة عبد الرحمان اليوسفي: "منذ انطلاق حكومة التناوب، شرعنا في العمل على إعادة إدراج الفلسفة كمادة مركزية، في كل الشعب، حتى العلمية منها، ولكن الخسائر كانت كبيرة(...) فمنذ السبعينيات، كانوا يؤاخذون العلوم الاجتماعية بكونها تزرع في التلاميذ الروح التخريبية والتمردية". ويضيف الساعف "فكرة إعادة إدراج الفلسفة في التعليم لم تكن ضمن البرنامج الحكومي، بل إن إدراجها جاء بفضل التقاء حساسيتي (هو خريج فلسفة) ورغبة هيأة الأساتذة. ولكنها لم تكن متناقضة أبدا مع طبيعة حكومتنا"، متابعا أنه لم يصادف "أي تلكؤ لدى السلطات العليا".
ولكن كيف يتم تدريس الفلسفة منذ عام 2000؟ "للأسف لم يتم تقييم الوضع منذ تلك الفترة" يقول متأسفا الوزير الأسبق للتعليم. ولكن الأكيد، أنه رغم من عودتها إلى مناهج التدريس فمازالت الجروح التي خلفت الحرب التي تم شنها على الفلسفة بادية. ويكفي إلقاء نظر على أحد مقررات التربية الإسلامية الذي يعرف الفلسفة بأنها "معادية للإسلام"، أو أنها "أس السفه والانحلال".
عن "تيل كيل" بتصرف