لأحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية منذ 16 سنة متواصلة، حيوات أخرى تتورى خلف جلبابه الوزاري. فهو كاتب وروائي وعاشق للسينما. وتكشف رواياته الكثير عن شخصيته: ارتباطه الشديد بالتصوف، نظرته إلى القدر، رأيه الجميل في المرأة. هذا الرجل الذي لا يحب الأضواء كثيرا يفتح قلبه لـ"تيل كيل".
خلف وظيفتك المتقشفة نوعا ما كوزير للأوقاف والشؤون الإسلامية، هناك شخصية أخرى لا يعرفها المغاربة كثيرا، ألا وهي شخصية الروائي والكاتب، علما أن العديد من النقاد يشيدون ببعض من رواياتك. هل الحياء هو الذي لا يجعل الروائي فيك يتقدم إلى الواجهة؟
لست معتادا على الحديث عن نفسي. في الواقع أنا مؤرخ، وجامعي، وقد تم تشريفي بتعييني من طرف جلالة الملك في منصب وزير الأوقاف منذ 2002.
وفي 1997 حدث أن وقعت في قاعة الانتظار، وأنا عائد من باريس، على رواية باولو كويلو "الكيميائي"، التي كانت قد حصلت للتو على جائزة "فيمينا". شيء ما جذبني في هذا الكتاب: حكمته المرتبطة بشيء ينتمي إلى تراثنا الصوفي. إنها حكاية رمزية لشخص يبحث عن شيخ صوفي بالشرق، قبل أن يلتقي أحدا يقول له: إن من تبحث عنه قد تركته في بلادك". فعاد إلى موطنه والتقى فعلا بالشيخ الذي كان يسعى وراءه. إن الحكمة الإغريقية هي التي تقول لنا إن ما نبحث عنه كامن فينا(...)
ثم ربطت بين فكرة الرواية والتراث الأندلسي. قلت لنفسي لم لا أحاول البحث عن حكمة مماثلة لهذه وأجعلها موضوع رواية؟ لم تخطر ببالي قط كتابة رواية قبل تلك الفترة. بعد بضعة أشهر كتبت "جارات أبي موسى".
في هذه الهواية الجديدة، كنت أتوفر على أدوات من نوع خاص: كان من حظي أنني درست التاريخ والجغرافيا. ولغتي كانت قد استفادت من المعجم التاريخي والجغرافي.
عند صدورها، صدمت هذه الرواية الكثير من "المهنيين"، ولكن أحمد اليابوري، من اتحاد كتاب المغرب، كتب مقالا يثني عليها، الامر الذي ساعدني على امتصاص حدة الانتقادات. فكما تعلم الانتقادات ليست دائمة بريئة.
ثم بعد ذلك قلت في نفسي يجب كتابة رواية أخرى لتأكيد مكانتي، فكانت "شجيرات حناء وقمر"، ثم رواية ثالثة ورابعة، وفي الأخير جزأين من سيراتي الذاتية "والد وما ولد". كل هذا كان عملا شخصيا، ولم أهتم قط بفضاءات الكتابة الأدبية أو الروائية.
مرة أخرى، لست أسعى إلى الواجهة، وأكتب لأسباب شخصية وثقافية محايدة تماما. أشعر براحة كبيرة عندما أكتب، هذا إن وجدت وقتا للكتابة.
النساء حاضرات بقوة في رواياتك، بل لهن دور مركزي، بالخصوص في "جارات أبي موسى"، غريبة الحسين"، و"السيل"....
إنه أمر في غاية الأهمية بالنسبة إلي. لما أكتب أو أتخيل رواية ما، فهذا الموضوع يأتيني كشيء أساسي. فالكائن الأنثوي يستقطب كل الأوجه، كل ما هو جميل، وكل ما هو قاس في الحياة. إن الكائن الأنثوي يكتنز قوة هائلة. إذ عبر المرأة نعثر على أنفسنا، وعلى كل واحد منا التعبير عما فيه من جانب أنثوي. ونحن نتقدم في بعض المجالات بفضل ذلك الجانب الأنثوي الكامن فينا.
نحن نتقدم في بعض المجالات بفضل ذلك الجانب الأنثوي الكامن فينا.
هل أثرت فيك عدة نساء، طيلة مسيرتك؟
بدون شك. ولا أريد الحديث عن هذا. إنها أمور دفينة تحت ما لا علم لي به من طوابق وأطلال الحياة. بإمكانك قراءة مذكرات طفولتي وسترى. في نهاية الحوار، سأقرأ عليك، إن أردت، نصا كتبته عن والدتي (فعلا بعد اللقاء قرأ علينا الوزير نصا مؤثرا، لم يسبق نشره، حول الجرح الذي خلفته في نفسه وفاة والدته). إنها تذكرني بالجمال والمعاناة. لقد تركتني لما كان عمري 11 عاما فقط. وخلال السنوات الخمس الأخيرة من حياتها كنت بعيدا عنها لأنني كنت أدرس في منطقة أخرى...
ثقل يد القدر موضوع يتكرر كثيرا في رواياتك. فالشخصيات الرئيسية في أعمالك تعطي الانطباع بأنها لا تختار شيئا، بل تتعامل مع الحياة كعبء؟ بالنسبة إليك، هل كل شيء مكتوب ومقدر مسبقا؟
لا نتحكم في مصائرنا. نطوعها فقط بالإيمان، فلما نكون مؤمنين، أي نقبل مغامرة الاعتقاد، إذاك فقط نضفي معنى على حياتنا. ومع ذلك، فنحن نتحمل مسؤولية في هذا المصير. وهذا ما يتجاوز الفهم البشري: نحن في الآن نفسه خاضعين للقدر، للمكتوب، ولكننا كذلك أمام مسؤولية تشكيل، وتنظيم وتوجيه هذا المصير. نحن نوجد بين هذين العنصرين. طبعا الجزء الأكبر من هذا كله يفلت من الكثيرين، والنهاية تفلت من الجميع. ولكن أحيانا نظن أننا بلغنا اكتشافا عظيما. والحال أن اكتشاف أسرار الحياة، مجرد أوهام. وعلى كل حال، فيد القدر تكون أكثر بروزا حيث توجد المعاناة والوهن.
بالنسبة إلى وضعي، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنني عشت في أزمنة مس فيها التغيير عدة أوجه. جغرافيا، ولدت في منطقة بالأطلس الكبير، حيث عشت إلى غاية الثانية عشر. تركتها لألتحق بمراكش، تماما مثل الشخصية الرئيسية في روايتي "السيل". عشت في عهد الحماية، الذي لا يمكن لشباب اليوم حتى تخيله. وعشت مرحلة الاستقلال، وهي فترة انتقال فريد من نوعه. حينما نعبر فضاءات وأزمنة، وأماكن مختلفة، فهذا يزيد في ثرائنا. للتذكير هنا رواية "السيل" تتحدث عن فترة الاستقلال.
عاينت الانتقال من العبودية إلى التحرر لدى بعض الأشخاص من قريتي، بفضل قوة عملهم في أماكن بعيدة. خرجوا من الوسط القروي حيث كانوا مجرد "خماسة"، لكسب مال أكثر. في الوسط القروي لم يكن هناك الكثير من المال. رأيت هؤلاء الأشخاص يغادرون للعمل في أماكن أخرى، ثم يعودون بعد ذلك إلى القرية بالمال، وملابس مغايرة، وبالدراجات الهوائية، التي كانت رمزا للغنى في ذلك العهد، بل في بعض الأحيان يأتون بأجهزة راديو. لقد أثر في هذا كثيرا(...)
لا نتحكم في مصائرنا. نطوعها فقط بالإيمان، فلما نكون مؤمنين، أي نقبل مغامرة الاعتقاد، إذاك فقط نضفي معنى على حياتنا.
في رواياتك، بالخصوص "شجيرات حناء وقمر"، تشير إلى أن المال والسلطة عنصران مفسدان. هل تمقتهما؟
حين نكون مؤمنين، فإننا ندرك أنه لا نحتاج سوى لما هو ضروري للحياة، ولخدمة الجماعة، بدون زيادة ولا نقصان. أما الجشع فهو مصدر للمعاناة بالنسبة للفرد والآخرين على حد سواء. وهو غالبا ما يفضي بالمرء إلى التكبر. الأمر ذاته يسري على السلطة، التي يمكن ان تكون مفيدة ومحمودة، ومصدرا للنعيم، كما يمكن أن تضر الفرد الذي يمسك بها. كل شيء متوقف على طريقة توظيفها.
إن الجمع بين الإيمان والواقع معادلة صعبة جدا. فالمجتمع الحالي يفرض أن يكون النجاح بالنسبة إلى الفرد هو كسب المال الكثير وارتقاء سلاليم السلطة...
في الثقافة الغربية، هذه الفكرة مرتبطة بالبروتستانتية. وماكس فيبر يتناولها في كتابه الكلاسيكي "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية". أما في الإسلام فـ"أفلح" تعني النجاح في الحياة الدنيا من أجل هذه الحياة ومن أجل الحياة الأخرى.
الواقع أن الجميع متفق على أهمية كسب المال، بالمقابل نحن في حاجة دائما لمؤسسات تنهض بمهمة المراقبة. فما دام حقل الرأسمالية قد فتح، انتبه الناس منذ الوهلة الأولى إلى ضرورة التسلح بمؤسسات، لأن الإنسان لا يحترم دائما مبدأ كسب المال باستقامة. الإسلام يدعو كذلك إلى الإنفاق دون إسراف.
طيب (يطلق ضحكة). أنا من الذين لا يكسبون مالا، ويميلون إلى انتقاد الناس الذين لديهم المال ولا يتصرفون فيه بما يليق.
السلطة يمكن ان تكون مفيدة ومحمودة ومصدرا للنعيم كما يمكن أن تضر الفرد الذي يمسك بها،كل شيء متوقف على طريقة توظيفها
لنعد إلى الأدب. هل تحمل في نفسك ذكرى رواية خلخلتك؟
من حظي، لما كنت في المدرسة الابتدائية بمراكش، أنني كنت أرتاد المكتبة البلدية –وهذا له معناه– إبان عهد الحماية. كنت ألتهم الكثير من الكتب. قرأت الكثير من الروايات الروسية المترجمة إلى العربية من طرف دار نشر تقدمية سورية. هكذا قرأت دوستوفسكي، تولستوي، وآخرين مثل بوريس باسترناك، صاحب رواية "الدكتور جيفاكو". في الأدب الفرنسي، قرأت بالخصوص نصوص بلزاك وهنري تروا، الذي أبهرني بموهبته الفذة في الوصف. والحال أنه لما قررت كتابة فصل عن المجوهرات في "شجيرات حناء وقمر"، قمت بأبحاث حول مجوهرات المغرب تماما كما كان يفعل "تروا" في حالات مماثلة. وظن الكثير أنني متخصص في المجال (يضحك).
هل تحب السينما؟
أحب السينما كثيرا، ولكن لم أزر قاعة سينما منذ زمن طويلة. في ريعان الشباب كنت –كما أحكي ذلك في "والد وما ولد"– أرتاد قاعات السينما يوميا، بمراكش ثم الرباط. أحب كثيرا هذا العالم الذي يبعث على الحلم، لأنني حالم كبير.
هل أعجبتك الطريقة التي تم بها نقل "جارات أبي موسى" إلى السينما من طرف المخرج محمد عبد الرحمان التازي؟
لقد سبق لي أن قلت للمخرج والمنتج رأيي. أنا مؤرخ، وككل مؤرخ، لدي حساسية مفرطة من المفارقات التاريخية. في رواياتي بذلت كل جهدي لأتجنب السقوط فيها من خلال بناء الجو المحيط بالشخصيات وحتى من خلال اللغة المستعملة، حتى أضع على أفواهها لغة العصر الذي تتحرك فيه. في الشريط لم يتم التعامل مع الموضوع بمثل هذه الصرامة الضرورية. وقد لفتت نظر صديقنا أحمد الطيب لعلج الذي كان مستشارا في الإخراج، والذي طمأنني إذاك رحمه الله. لقد كان ملما بالكثير من أوجه الثقافة الشعبية المغربية، ولكنه لم يتحكم في هذا الجانب الذي يمسني كمؤرخ(...)
من بين مؤلفاتك الكثيرة، أنت مشهور بكونك ناشر نص نقدي حول المتصوفة. إلى أي عهد يعود ارتباطك بالتصوف؟
كان والدي هو الرابط بيني وبين الزاوية التيجانية. فمعظم الأسر كانت مرتبطة بزاوية صوفية، كنوع من الإضافة إلى تدينها. كان الناس يبحثون عن روحانيتهم في هذا الجانب. والتحقت بالطريقة البوتشيشية في 1966، لما كان عمري 23 عاما. وقد كسبت الكثير روحيا وعقليا من خلال مصاحبة هذه الطريقة، إلى غاية اليوم.
هل من مشاريع أدبية جديدة؟
ربما. لدي مشروعان عزيزان على قلبي وأسعى إلى إنجازهما ما دمت في كامل قواي، وقبل "الرحيل الكبير". الأول يتعلق برواية تتتبع مراحل السفر الصوفي، كما لدي مشروع رواية تاريخية حول العهد الموحدي بمراكش (مابين 542 و662 هجرية). إنها تتناول حياة أبو العباس السبتي الذي حل بالمدينة الحمراء لما كان الموحدون يحاصرونها. سأسميها "جيران أبو العباس". وهذه أول مرة أتحدث فيها عن هذين المشروعين الأدبيين.