أحمد مدياني - إقليم شفشاون
"ليس من رأى كمن سمع..." عبارة تفرض علينا استحضارها عند وقوع حدث جلل وما يرافقه من واجب التواجد فيه حيث وقع أو أثر، وما يرافقه من تقاسم أدق التفاصيل مع من طالهم من البشر والحجر.
ولأن الحدث أقوى وأعمق، يحق لنا تعديل المقولة قليلا بالتشديد على أنك يجب أن "تسمع وترى وتشعر أيضا..." ثم تنصهر بعدئذ في أوساط فئات من الذين أعادهم العفو الملكي الأخير لحياتهم الطبيعية. حقا لقد ولدوا من جديد كما عبروا عن ذلك.
ولدوا من جديد، بعدما تحرروا من تبعات نشاط زراعة "القنب الهندي" أو شبهة ذلك، وكيف تسبب في حرمانهم من الحرية ونزع حقوقهم الإنسانية، سواء خلف قضبان السجون أو عن طريق الاختباء لسنوات بين أشجار وصخور مرتفعات الريف الجغرافي.
يوم الأربعاء 21 غشت الجاري، شد "تيلكيل عربي" الرحال إلى إقليم شفشاون. هنا بمنطقة "باب برد" ونواحيها، منح الترخيص الأول لزراعة وتحويل "الكيف" إلى منتوج وطني وفق الضوابط القانونية التي اعتمدها التشريع المغربي عام 2022. وهنا أيضا خرج أصحاب الأرض من دوامة الخوف ودخلوا دائرة الأمان بفضل قرار الملك محمد السادس بالعفو عنهم. قرار منحهم تسجيلا وتحفيظا لحقهم التاريخي في الاستفادة من التحول الذي اختارته الدولة.
وعلى مدى أربعة أيام، التقينا عددا من الذين استفادوا من العفو، وحسب ما رووه لنا، فإنهم لم يستفيدوا منه لوحدهم، بل استفادت منه الأرض وما كان لها ذلك لولا معانقتهم لسماء الحرية ودنيا الناس، ويقصدون بذلك، أن العفو جبر ضرر ومصالحة شاملة وانصاف حكيم انتهت معه كل مآسي الماضي.
لننصت إلى من يهمهم العفو!
"ولدنا من جديد"
وأنت في حضرة الذين استفادوا من العفو الملكي، تكون أمام خليط من المشاعر. تستشعر رغبتهم في البكاء. بل إن منهم من لم يقاومها وهو يروي معاناته لسنوات.
"عاش الملك... عاش الملك... والله اعينو... سبع سنوات لم نذق فيها نعمة الحرية، نحن أربعة إخوة وأنا أصغرهم، واحد أمضى شهرين في السجن، وأنا وأخي جاءنا العفو بعدما كنا في حالة فرار، وبقي لنا أخ آخر نتمنى أن ينال عفوا ملكيا، اسمه بوحديدي عزيز".
كانت هذه شهادة إدريس بوحديدي، من دوار "مريرية". حكاها وهو يبكي.
وأضاف قائلا بتأثر بليغ: "عشت سبع سنوات في العذاب، كنت يلا بززت عليا الظروف، نهبط من الجبل لباب برد مخبع، أما المدينة محرمة عليّا".
قصة معاناة أخرى، يصعب على الحروف والكلمات إيفاء حقها ولو بمداد البحر. "المفضل" رجل طاعن في السن، لخص احساسه نحو العفو بالقول: "شكرا جلالة الملك، ما غاديش نعيش آخر أيام عمري وأنا هربان ولا مسجون".
يقطن بقيادة "أونان"، يبلغ من العمر 70 سنة، ولم يكن حسب بوحه لموقع "تيلكيل عربي" راغبا في أن يسلم نفسه يوما ما لقضاء عقوبته الحبسية.
ويقول في هذا الصدد: "عياو فيا الوليدات منين يجيو عندي... الوالد سير دوز لي عطوك ورجع لينا... الوالد اللهم تدخل وتخرج ولا تبقى هربان..."
لم يكن سنه ولا جسده يسعفانه لقضاء عقوبة حبسية. لذلك، فقد وصف العفو الملكي بأنه مفاجأة كبرى، واستحضر هنا أنه كان مرضي الوالدين، واليوم يشعر بأنه نال حتى رضى الملك.
بدوره تفاجأ فريد مكوني من دوار "بوكامل" من قرار القرار العفو الملكي.
فريد كان متابعا في حالة سراح مؤقت، اختار بعد تقديم شكاية ضده تتهمه بزراعة "القنب الهندي" وحيازة "زريعته"، وحين تسليم نفسه، حكم عليه ابتدائيا بثلاثة أشهر، تقدم بطلب الاستئناف، ثم جاء العفو الملكي ليحرره من كل هذا.
محمد البوحديدي، من دوار "تزلافن"، دائرة "باب برد" -للإشارة هو لا يقرب إدريس الذي نقل "تيلكيل عربي" شهادته الأولى هنا -
يقول محمد: "خمس سنوات وأنا هارب من المنطقة بسبب (الكيف)... لم أكن أستطيع الخروج أو الدخول أو السفر، وإذا مرض أولادي لا أستطيع الذهاب معهم عند الطبيب، ولا يمكن لي زيارتهم في المدينة التي يدرسون فيها، وإذا ذهبت لباب برد، أكون دائما متخفيا".
وعن العفو الملكي يضيف: "مبادرة الملك محمد السادس، جعلتني أحس كأنني ولدت من جديد.. وصدرت مذكرة البحث في حقي، منذ خمس سنوات، عشت فيها العذاب، كأنني في سجن خارج السجن، لا راحة في النوم ولا حرية في الحركة والتنقل، وإن مرضت أنتظر الشفاء خوفا من الظهور داخل مركز صحي أو مستشفى".
شهادة أخرى عن وقع العفو الملكي يحكيها رشيد أشراف (44 عاما) من دوار "جرمون"، وهو واحد من الذين أدينوا حضوريا بعقوبة حبسية، بعد شكاية مجهولة ضده وضد أخيه وقد جاءت حسب تصريحه، بسبب صراع بين القبائلة على الأرض.
ويصف رشيد العفو بأنه "قرار ملكي جعل من خيرات هذه الأرض لناسها الذين أصبح لهم الحق في الاستفادة منها بدون خوف وفي إطار القانون".
كل من تحدث إليهم "تيلكيل عربي" بعين المكان، أجمعوا على أن "العفو الملكي خفف عنا حملا ثقيلا".
وعن هذا الشعور يصرخ محمد البوحديدي وهو يتحدث فرحا: "حاس بحرارة في قلبي لا يمكن لي أن أصفها، وهذه فرحة كبيرة نزلت علينا، كنت جالسا، واتصل بي أخي يخبرني أنه جاء عفو ملكي عليا، نقزت من بلاصتي، أول ما تفكرت نرجع لداري لوليدات وبنياتي، نهبط غير للشاون ونسجد شكرا في الشارع بلا خوف... توحشت نتمشا في المدينة".
عفو ملكي يُسقط "ظلم ذوي القربى"
يقول طرفة ابن العبد في قصيدته الشهيرة: "وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً ... عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ".
وحسب روايات كل الذين تحدث إليهم "تيلكيل عربي"، باستثناء رشيد أشراف الذي رد مصدر الشكاية ضده وضد أخيه لخلاف بين القبائل، فإن الخلافات بين العائلات كانت وراء صدور مذكرات البحث أو التوقيف أو المتابعة والحبس.
ودون الخوض في تفاصيل كل شكاية، تجنبا لإعادة إيقاظ ما أخمد تحت رماده العفو الملكي، فإن شهادات الذين استفادوا منه كانت صادمة حسب ما جاء فيها.
"الأخت تقدم شكاية ضد أشقائها"... "ابن العم يستقدم رجال الدرك إلى الأرض لحظة الحرث أو الحصاد"... "خلاف بين الأب والأبناء يتسبب في الحبس والمتابعة والفرار"...
فصول تراكم لأحقاد وضغائن لو كانت حطبا لا ينفذ، لاستعار نارا سيمتد لهيبها وشواظها في الزمان والمكان لو استمرت الأوضاع كما كانت، قبل أن يطفئها العفو، في إنتظار اكتمال تنزيل مقاصده الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية.
مستقبل ما بعد العفو الملكي...
"طيلة سنوات الفرار، ومن أجل توفير لقمة العيش، كنت أعمل باليوم مخبي، مرة نتخلص مرة لا وما نقدرش نشكي... وكل يوم ورزقه، وبطاقتي الوطنية انتهت صلاحيتها سنة 2022" يقول إدريس بوحديدي.
نفس الوضع يعيشه جل من تحدث إليهم "تيلكيل عربي". أحدهم التقيته وبعد الاستماع لشهادته، صادفنا أحد رجال السلطة على الطريق نحو شفشاون، وصاح حينها: "واسي الخليفة... إمتى ندوز نشد وراق لاكارت ديالي".
بطاقة التعريف الوطنية، عند هؤلاء تحولت إلى شبه حلم قبل قبل قرار العفو الملكي... اليوم هي أول ما يطمحون للحصول عليه.
كلهم، يجمعون على أن مصيرهم من مصير هذه الأرض. ومصيرها اليوم حدده لأجل أبنائها قرار ملكي ربط الماضي بالحاضر لأجل المستقبل.
يعيلون أسرهم ولا بديل عندهم غير ما تجود به الأرض حيث مسقط رأسهم.
مستقبل، بحسب الفاعلين الذين انخرطوا في دينامية تقنين زراعة وتحويل "القنب الهندي"، يُدخل المنطقة كلها في دائرة الشعور الجماعي بالأمان تجاه المشروع ويستقطب ثقة من يرغبون في الاستثمار فيه لأجل تنمية الأقاليم المعنية بهذا الورش الوطني.