لم يتراجع الاهتمام بالفكر الاقتصادي للراحل عزيز بلال، رغم مرور سبعة وثلاثين عاما على وفاته، بالتمام والكمال، في حادث مأساوي بشيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية، إذ مازالت القضايا التي أثارها منذ الخميسينات من القرن الماضي، ذات راهنية في السياق المغرب، هو الذي أكد على أن النمو لا يعني التنمية، وشدد على ضرورة ربط التنمية بمشروع اجتماعي، يروم إعادة توزيع الثروة، وترسيخ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
غيبته الموت قبل سبعة وثلاثين عاما، لكنه لم يغب عن الكثير من المغاربة، خاصة من الطلبة والمنتسبين لحزب التقدم والاشتراكية، الذي يحتكمون لذكراه وفكره، كلما جرى الحديث عن إعادة توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية.
هاجس الخروج من التخلف
اهتم الاقتصادي، عزيز بلال، منذ شبابه بقضايا التنمية والخروج من التخلف، ولم يكتف بالتدريس بالجامعة المغربية، بل ساهم في بلورة المخطط الخماسي الذي غطى الفترة بين 1960 و1964، وعمل قبل ذلك، في 1959، كاتبا عاما لوزارة الشغل بحكومة عبد الله إبراهيم، حيث ساهم في بلورة مشروع التغطية الاجتماعية للعمال، وهو هاجس كان يسكن تلك الحكومة، التي أطلقت العديد من المشاريع التي رامت ضمان الاستقلال الاقتصادي للمغرب.
الأطروحة التي أنجزها حول الاستثمار بالمغرب بين 1912 و1946، أكد فيها على أن المغرب، كان تابعا اقتصاديا لفرنسا، ما ينقض التصور الذي يؤكد على الأيادي البيضاء للحماية على المغرب من المنظور الاقتصادي، فعزيز بلال، يشدد على أن المغرب عرف في تلك الفترة نموا لم يفض إلى تنمية.
ويعد التمييز بين النمو والتنمية مركزي في أطروحة عزيز بلال، الذي كان يشدد على ضرورة التوفر على مشروع مجتمعي، يحيط بجميع الجوانب، ويستند على العدالة في توزيع الثروة، والتوازن في ممارسة السلطة، والولوج الديمقراطي للثقافة والصحة والتربية.
اهتم بالمشاكل البنيوية للتنمية، حيث كان يدافع عن أطروحة مفادها، حسب ما كتبه مؤخرا أستاذ الاقتصاد عبد السلام الصديقي، رفض المقاربات القائمة على نوع من المركزية الأوروبية أو تلك الخطية، مؤكدا على أن التنمية التي يحققها البعض تفضي إلى تخلف البعض الآخر، معتبرا أن التخلص من ذلك الوضع يمر عبر التحرر الوطني وتحرر الشعوب.
فقد ركز عزيز بلال على المتغيرات غير الاقتصادية للتنمية، حيث انتقد على حد سواء النظريات السائدة التي تدعو لتدارك التأخر وتلك التي تشير إلى "طريق ثالثة"، التي احتفي بها بإفريقيا، مؤكدا على العوامل الاقتصادية والثقافية والإيديولوجية وحتى الحضارية، فهو يعني، التعاطي مع المشاكل الأساسية المترابطة، المتمثلة في التحرر الوطني، والثورة الاجتماعية، والتنمية والحضارة.
يعتبر رئيس مركز عزيز بلال، محمد الشيكر، أن عزيز بلال كانت لديه قدرة كبيرة على شرح الأطروحات التي بلورها اقتصاديون، مثل سمير أمين حول تبعية المحيط للمركز، ما يستدعي نوعا من التحرر الاقتصادي والتنمية التي تعكس مشروعا مجتمعيا كما كان يعتقد عزيز بلال.
كان أحد الاقتصاديين الأوائل في تاريخ المغرب المستقل، الذين انشغلوا بقضايا التنمية والتحرر الاقتصادي، حيث وجد ذلك له صدى في الجامعة المغرية، غير أن عزيز بلال لم يكن، ينزاح، كما يوضح ذلك الشيكر، عن ضوابط البحث الأكاديمي، عندما يرتدي جبة الأستاذ الجامعي.
البعد الأكاديمي أولا
لم يكن يخلط بين البعد الأكاديمي لوظيفته، وتلك التي يعبر فيها عن قراءته للأحداث والوقائع الآنية، حيث يؤكد الصديقي، على أن الطلبة يستمتعون كثيرا عندما يتحرر من المحتوى الصارم للدروس، وينخرط في الحديث عن القضايا الراهنة الكبرى، متحدثا عن الرهانات الكبرى التي تشغل الإنسانية، خاصة أنه كان مهموما بقضايا العالم الثالث والمغرب، فقد كرس بلال الذي رأس "جمعية الاقتصاديين المغاربة"، جزءا من حياته للإحاطة بسبل الخروج من فخ التخلف وتحقيق هدف التحرر الوطني.
يعترف له الكثير من طلبة الاقتصاد بالفضل في تكوينهم، هو الذي لم يكن يميز بين طلبته على أساس الانتماء السياسي أو الإيديولوجي، بل إن الشيكر يؤكد على أن عزيز بلال كان يتعاطى بصرامة كبيرة مع الطلبة المنتمين للحزب الذي كان أحد قيادييه، عند تقييم أدائهم العلمي، فهو كان يعتقد أن الحزب يحتاج لأطر يتمتعون بتكوين علمي متين.
الراحل عزيز بلال، الذي انخرط في مناهضة الاستعمار منذ الخمسينات من القرن الماضي، لم يتخل عن التزامه بمبادئ الحزب الذي كرس له الكثير من الجهد، فقد كان أحد مؤسسي حزب التحرير والاشتراكي في 1968، كما ساهم في تحول ذلك الحزب إلى حزب التقدم والاشتراكية في 1974. وعرف الرجل بالتزامه بقرارات الحزب، حتى تلك التي لم تكن توافق تقديراته السياسية، فوفاؤه للحزب يعود إلى سنوات شبابه، عندما انضم للحزب الشيوعي، الذي جرى حظره بعد الاستقلال.
قضي عزيز بلال في ظروف أليمة في 1982، حيث توفي بشيكاغو في حريق بفندق "هيلتون"، عندما حضر لتوقيع اتفاقية توأمة بين المدينة الأمريكية وجماعة عين الذئاب (بالدارالبيضاء)، التي كان مستشارا بها ونائبا لرئيسها، علما أنه اعتذر في البداية عن حضور ذلك الحدث، لتزامنه مع موعد امتحانات نهاية الموسم الجامعي.
رحل عزيز بلال، لكن فكره ما زال يسائل الراهن المغربي، خاصة في ظل البحث عن نموذج للتنمية.