كان الطفل الصغير منشغلا، طوال الوقت، بالحبو هنا وهناك، في زوايا أحد مكاتب فرع ''جمعية محاربة السيدا'' في الرباط، الذي قادته إليه إصابته بفيروس انتقل إليه من أمه، التي ربطت علاقات جنسية متعددة، أسمتها بـ''العلاقات العابرة''، قبل الزواج بأبيه. يوسف يبلغ من العمر سنتين و4 أشهر، وهو واحد من 586 طفلا مغربيا حاملا لداء ''السيدا''، التقت "تيل كيل عربي" أمهاتهم وتحدثت إلى بعضهم، وتنقل لكم شهاداتهم .
الْعِلْمُ بالإصابة
في سن الثامنة، حين لا يفكر أغلب الأطفال إلا في اللعب، علمت يسرى، وهي فتاة تبلغ من العمر 18 سنة، أنها مصابة بـ ''السيدا''، نتيجة الرضاعة الطبيعية من أمها.
اكتشاف يسرى لمرضها، جاء بعد معاناة طويلة مع المرض؛ إذ كانت تقضي كل فصل صيف في التداوي من أمراض الإسهال، وارتفاع حرارة الجسم، وآلام الرأس الشديدة، فضلا عن التقيؤ.
معاناة جعلت الأطباء يظنون، لسنوات طويلة، أنها مصابة بالتهاب السحايا، المعروف بـ ''مِينَانْجِيتْ''، ويخرجون ماء من عمودها الفقري، كل صيف، باستعمال إِبْرَةٍ طبية كبيرة، وهو ما كان يؤلم يسرى كثيرا، إذ قالت ''كانوا يربطونني لإخراج الماء من عمودي الفقري''.
رفضت مريم، وهي السيدة التي تبنت يسرى بعد تخلي أمها الحقيقية عنها، استمرار الأطباء في تشخيص حالة يسرى بكونها مصابة بالتهاب السحايا، لأن هذا المرض لا يصيب الإنسان إلا مرة واحدة في الحياة، كان المدخل لاكتشاف داء يسرى، بعد أن علم الأطباء أن مريم تبنتها ولم تنجبها، وأجروا لها تحليلا طبيا كشف حملها لفيروس عجز العلم عن إيجاد علاج له.
وتضم الرباط 167 طفلا مصابا بالداء، ضمنهم يوسف، وهو طفل علمت والدته نادية بحمله للفيروس عندما بلغ سنه سنة. يوسف عانى من الكحة وارتفاع حرارة الجسم، إلى جانب أمه التي ظلت، حينها، تكح وتتقيأ لفترة طويلة، وهو ما دفعها إلى عرضه على الطبيب لإجراء التحليل الطبي الخاص بـ ''السيدا''، وحينها تبين أنه مصاب بالفيروس، لتكون الصدمة، بعد ذلك، أكبر حينما علمت الأم أنها مصابة أيضا، وأنا كانت المسؤولة عن نقل العدوى إلى يوسف.
أما ج.ج (الحرفين الأولين من اسم ونسب)، وهو طفل إيفواري مصاب بـ ''السيدا''، يعيش، رفقة أسرته، في الرباط، فقد علمت والدته ج (الحرف الأول من اسم والدة ج.ج، التي رفضت الكشف عن اسمها) بإصابته بالداء عندما كان عمره 8 أشهر. تأخر في تشخيص الحالة، بررته ج بانشغالها بالتداوي من داء السل، الذي أصابها بعد إنجابها لـ ج.ج مباشرة. وبعد أن شفيت منه، أجرت تحاليلا طبية، في كوت ديفوار، كشفت أنها وابنها، ذو الـ 10 سنوات، حاملان لفيروس ''السيدا''.
الإعداد للصدمة
يسرى، التي رأت نور الدنيا نتيجة علاقة جنسية خارج إطار الزواج، أُخْبِرَت بأنها مصابة بالداء، دون أن يتم إعدادها نفسيا بالشكل الجيد، الذي يسمح لها بتقبل هذا الواقع. أما نادية، فقد كشفت عن خوفها من اللحظة التي ستضطر فيها إلى إخبار يوسف بأنه مصاب بـ ''السيدا''، في حين قررت ج الاستعانة في ذلك بمصلحة الوساطة الخاصة بالتتبع النفسي، في مقر فرع ''جمعية محاربة السيدا'' في الرباط.
وتقوم ''جمعية محاربة السيدا'' بالإعداد النفسي لأطفال متعايشين مع الداء، لكي يتلقوا خبر إصابتهم به بأقل قدر ممكن من الصدمة؛ بحيث يبدأ الإعداد في سن الخامسة، بجلسات يتكلم فيها أطباء مع أطفال مصابين، أولا، حول مفاهيم الصحة، والمرض، والدم ومكوناته، إضافة إلى الجراثيم النافعة للجسم، والجراثيم التي تضر به، والدواء، الخ، لكي يعرفوا الطفل، في البداية، على مكونات جسمه، وفق ما أفادته الدكتورة فتيحة غفراني، رئيسة فرع الجمعية في الرباط، في حديث مع "تيلكيل عربي''.
الدكتورة غفراني أضافت أنه يتم بعد ذلك تعريف الطفل على قيم الخير والشر، لكي يستطيع التمييز بينها، إضافة إلى جعله يتشبع بقيمتي التكتم وعدم البوح بالأسرار.
وبعد اكتمال أربع سنوات من الإعداد، أو قبل ذلك بقليل، يخبر الأطباء الطفل بحمله لفيروس ''السيدا''، حسب الدكتورة غفراني، التي أبرزت أن بعض الأطفال يكونون قد علموا بواقعهم الصحي قبل إبلاغهم؛ وذلك نتيجة مرافقتهم لآبائهم إلى المستشفيات، من أجل إجراء تحاليل طبية خاصة بالداء الذي يحملونه، بحيث علموا بالأمر هناك دون أن ينتبه لذلك آبائهم، الذين يظنون، حسب الدكتورة، أنهم لن يفهموا ما يدور بينهم وبين الأطباء، نظرا لصغر سنهم.
يعيشون ليعانون
''أنا خائفة من ألا يقدر على المشي، ومن احتمال عدم قبوله في المدرسة''، تقول نادية، متحدثة عن صغيرها يوسف، والحزن بادٍ بوضوح على محياها.
وحسب الدكتورة غيتة العلوي، وهي طبيبة متطوعة في ''جمعية محاربة السيدا''، فإن يوسف يعاني من مشاكل في النمو، موضحة ''الأطفال الصغار يتمشون بعد بلوغهم، كأقصى تقدير، سن 12 شهرا، إلا أن يوسف لم يقدر على القيام بذلك، رغم تجاوز عمره السنتين''، ويرجع سبب ذلك، حسب العلوي، إلى كونه عانى أثناء ولادته من نقص للأوكسجين في المخ، مما أفضى إلى منع التحرك الجيد للدم في جسمه حينها.
وأضافت العلوي، في حديث مع ''تيلكيل عربي''، أن يوسف يعاني من إعاقة جسدية، مبرزة أنه من الممكن أن يتبين مستقبلا أنه يعاني، أيضا، من إعاقة ذهنية، إلى جانب احتمال مواجهته لمشاكل على مستوى التكلم.
أما يسرى، التي لم تلتق قط بوالدتها الحقيقية، فمعاناتها مزدوجة؛ حمل لفيروس قاتل، ومنع من قبل أفراد العائلة المتبنية من البكاء والشكوى حول مرضها، مبررين ذلك بكونها تعلم بإصابتها بالمرض منذ الصغر، وهو الأمر الذي يجعل البكاء والشكوى في نظرهم ليسا في محليهما. إخفاء للمشاعر أفضى بيسرى إلى أزمة نفسية، اقتصرت في البداية على التهديد بالتوقف عن تناول دواء ''السيدا''.
وفي سن 14 سنة، وبعد أن دُمِّرَت نفسيتها كليا، توقفت يسرى عن تناول الدواء، الذي كشفت أنه كان بمثابة ''أَصْفَادٍ'' بالنسبة إليها. توقف سبب لها نزيفا دمويا على مستوى الرحم دام لمدة سنة كاملة، وبعد أن شفيت منه أصيبت بفقر الدم، ليأتي بعده دور ''الْكِيسْ'' (الْكِيسْتْ بالفرنسية) الذي جعلها، حسب شهادتها، تعاني من آلامه لمدة عام كامل. معاناة جعلت شكلها يصبح شبيها، حينها، بمرضى السرطان والعجائز حسب تعبيرها، إذ قالت ''كنت وقتها نحيفة، وبدأ شعري يتساقط، واصفر لون وجهي. وبدأت أشعر بالفزع كلما نظرت إلى نفسي في المرآة''.
ولم تتوقف معاناة يسرى عند هذا الحد، بل عانت لاحقا من ''الشُّومْبِينْيُونْ''، وهو تجمع كثلة بيضاء تشبه الجبص في عضو من أعضاء الجسم، في المهبل والحلق، مرفوقا بالتهابات وتقيحات، حرمتها، حتى، من الأكل بسبب عدم قدرتها على البلع، ليكون القرار بعد ذلك إجراء فحص ''الْفِيبْرُونْ''، وهو فحص يُدْخَلُ خلاله أنبوب مرفوق بكاميرا تصوير إلى المعدة، الذي كشف معاناة يسرى من التهابات، كان سببها الانخفاض الشديد لمناعة جسمها. وأبت الأمراض الابتعاد عن يسرى، إذ كان لها، بعد ذلك، لقاءين مع تسمم الأمعاء، وما يصطلح عليه بـ''حريق النّْبُولَة''، وكل ذلك كان بسبب حملها لفيروس ''السيدا''.
أما ج.ج، فقد كانت إصابته صادمة بالنسبة لأمه، لكنها قررت الصمود، وتجنب البكاء لأنه، في نظرها، لن يغير شيئا. وحتى عندما تتدهور الحالة الصحية لـ ج.ج، فإن ج، حسب روايتها، تبكي دون دموع، حتى لا تشعر ابنها بأنه يعاني من نقص ما بسبب حمله لفيروس ''السيدا''.
زيارة فرع الجمعية في الرباط يثير فضول ج.ج، بحيث يتساءل عن أسباب زيارته وأمه له، خاصة بعد رؤيته لرسومات تخص الداء معلقة على الجدران. وأمام هذا الموقف، لا يسع والدته إلا التهرب من الإجابة عن أسئلته.
وعن منع تسجيل إصابات جديدة بالفيروس لدى الأطفال في المغرب، قالت الدكتورة غفراني، لـ ''تيلكيل عربي''، إن المغرب لديه، حاليا، الإمكانيات التي تخول له منع ولادة أي طفل حامل للداء، مبينة أنه إذا تم اكتشاف إصابة الأم الحامل بـ ''السيدا''، خلال الثلاثة أشهر الأولى من الحمل، وتناولت الدواء الثلاثي، وهو عبارة عن مضادات قَهْقَرِيَّة للفيروس تحمي جهاز مناعة المصاب، فإن احتمال انتقال الفيروس إلى جنينها لن يتعدى نسبة 1 في المائة.
ومن أجل تحقيق نفس الهدف، وضعت ''منظمة الصحة العالمية'' خطة، مضمونها وقاية النساء اللواتي يُعْتَبَرْنَ في سن الإنجاب من ''السيدا''، وتوفير حبوب منع الحمل للنساء المصابات بالداء، غير الراغبات في الحمل، ووقاية النساء الحوامل المصابات بالداء، مما سيفضي في النهاية، حسب المنظمة، إلى تجنب ازدياد أي طفل مصاب بالفيروس.
دواء ولا شفاء
يوسف، الذي كشفت والدته أن أباه ينهره بسبب بكائه الكثير، لا ينام كل يوم قبل أن يتناول أقراصا ذائبة، ومحلولا (سِيرُو)، مرتين في التاسعة والعاشرة مساء. هذا الأخير (المحلول) يتناوله يوسف بسبب وصول الداء إلى أمعائه، بينما تكتفي أمه بتناول الأقراص الذائبة، في السادسة صباحا، وفي منتصف النهار، وفي العاشرة مساء.
وعلاقة بتناول الأطفال المتعايشين مع الداء لدواء ''السيدا''، قالت الدكتورة غفراني إن وزارة الصحة توفر أحيانا الدواء في شكل محلول، وأحيانا أخرى في شكل أقراص ذائبة، مبينة أن هذه الأخيرة لا تؤدي وظيفة العلاج، حينما يطلب من آباء المصابين منح، فقط، جزء من القرص للطفل، وذلك بسبب تقطيع الآباء للقرص بطرق خاطئة، حسب الدكتورة.
أما ج.ج، فيتناول خمسة أقراص من دوائه الخاص بـ ''السيدا'' كل صباح، معتمدا في ذلك على نفسه دون مساعدة أمه، التي تكون منشغلة باستمرار بالاعتناء بمولودها الصغير، الذي يبلغ من العمر شهرين.
وبالنسبة ليسرى، التي كانت قد أضربت عن الدواء بشكل كلي، فقد مر الآن على بدئها تناول الدواء الجديد شهر. هذا الأخير وُصِفَ لها بعد إجرائها تحليلا طبيا وصفته بـ ''النادر''، قيمته 3000 آلاف درهم، إذ أخذ منها الدم في المعهد الوطني الصحي بالرباط، وحلل في فرنسا، وظهرت نتيجة بعد ثلاثة أشهر.
محيط قاسٍ
إصابة يسرى بداء ''السيدا'' جعلت مريم تقول، حسب الفتاة، ''إنها تبنت طفلة تعاني من إعاقة''، ملقية لوم إفلاسها المالي على ما يتطلبه علاج يسرى.
بعض أعضاء العائلة المتبنية ليسرى يخافون من أن تنقل إليهم الفيروس، أو إلى أبنائهم. أما صديقاتها، فهي تخفي عليهم واقع حملها لداء ''السيدا''، مخافة أن يبتعدوا عنها، أو يفضحوها.
ومن جهتها، كشفت ج أنها تعاني من نفور الأشخاص منها، إذا علموا بأنها مصابة بالسيدا، بحيث عانت من ذلك أثناء إنجابها لمولودها الأخير، إذ رفضت الممرضة أن تشرف على عملية الولادة، بعد أن علمت أن ج مصابة بالداء، واستدعت ممرضا آخرا لكي يتولى هذه المهمة. ولهذه الأسباب تفضل ج الالتزام بالصمت تجاه إصابة ابنها، لكي تحميه من مثل هذا الشعور.