كرباج: التحول الديمغرافي حد من تفاقم البطالة والفوارق الاجتماعية بالمغرب

يوسف كرباج
تيل كيل

في هذا الحوار يسلط يوسف كرباج، الباحث السوري المعروف المتخصص في الديمغرافيا، الضوء على التحول الديمغرافي بالمغرب وتداعياته على المجتمع المغربي، وكذا التحديات الجديدة التي يطرحها هذا التحول.

شرع المغرب في تحوله الديمغرافي عشر أعوام قبل جيرانه الإقليميين، كيف تفسر التحرك المبكر؟

في بداية الستينيات، كان برنامج التخطيط الأسري فعالا، لأن المغرب كان في حاجة ماسة إلى الحد من النسل الذي كان مرتفعا في الأوساط الفقيرة والقروية التي تشيع فيها الأمية.

الحق أنه من الصعب تحديد كمية العوامل التي أفضت إلى هذا التحول، ولكن يمكننا الإشارة هنا إلى الدور الذي لعبه المهاجرون المغاربة بالخارج الذين نقلوا إلى المغرب، دون قصد منهم، قيم المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها، بالأخص فرنسا، ثم إسبانيا وإيطاليا. وبالتالي لم تعد الأسرة السعيدة هي الكثيرة العدد، بل الأقل حجما(...)

معدل الولادات بالمغرب اليوم يصل إلى 2.2 طفل لكل امرأة، وهو رقم منخفض جدا. ما هي الصعوبات التي قد تواجهها بلادنا بسبب تزايد شيخوخة سكانها؟

أعتقد أن خطر شيخوخة السكان مبالغ فيه، لأنها تتبع مسلسلا بطيئا ولا يمكن أن تكون مفاجئة، كما أن مفهوم الشيخوخة في حد ذاته نسبي جدا. فأنا لما كنت أرى والدي وقد بلغ الخمسين من عمره، كان يبدو لي واحدا من الأجداد. أما اليوم، فالمرء الذي يبلغ الخمسين يكون مفعما بالحيوية. وأشير هنا إلى أن المفكر الفرنسي باسكال بروكنر ألف مؤخرا كتابا تناول فيه طول أمد الحياة وأبرز فيه أنه يجب التعامل بنسبية مع مفهوم "الشيخ". ويضرب مثلا بالفيلسوف إدغار موران، الذي مازال يبدو "شابا" وهو يشارف المائة عام من عمره، فهو مازال يؤلف الكتب ويعطي الحوارات... إلخ.

إن أمد الحياة مع التمتع بصحة جيدة يرتفع بشكل ملحوظ في عصرنا، وخطر الإنهاك المبكر يتراجع أكثر فأكثر. كما أن مزيدا من الشيوخ يشتغلون إلى سن متأخرة، كما هو الحال مع النموذج الألماني. طبعا، بعضهم يقبلون على العمل طوعا، بينما آخرون يضطرون لذلك لأن تقاعدهم غير كاف.

وعلى العموم، خطر شيخوخة المجتمع مبالغ فيه في كل مكان، بما فيها المغرب.

ب التعامل بنسبية مع مفهوم "الشيخ". ويضرب مثلا بالفيلسوف إدغار موران، الذي مازال يبدو "شابا" وهو يشارف المائة عام من عمره، فهو مازال يؤلف الكتب ويعطي الحوارات

تقول النظرية إن انخفاض الخصوبة في بلد ما يتزامن دائما مع الإقلاع الاقتصادي. ولكن المغرب يجد صعوبة في حصد الثمار الاقتصادية لتحوله الديمغرافي.. ما السبب في نظرك؟

إنها مسألة معقدة، وقد طرحت السؤال على عدد من المهندسين والتقنيين والاقتصاديين المغاربة المرموقين. لماذا بالفعل يجب في المغرب استثمارعدة وَحَدَات من رأسمال للحصول في نهاية المطاف على وَحَدَة واحدة فقط من العائدات، على عكس بعض البلدان الأخرى؟ وبرروا لي ذلك بوجود استثمارات إلزامية في بلد شاسع.

وهذه الاستثمارات مكلفة جدا، كما هو شأن بناء الطرق بين فاس ووجدة مثلا، رغم أن هذه المنطقة غير مأهولة كثيرا. وبالتالي فإن العائد الاقتصادي لا يكون فوريا. فحينما تريد الحصول على بلد/أمة، من اللازم تمكين البلاد من شبكة قوية للنقل، وإلا فإنك ستحصل على "بلاد السيبة" و"بلاد المخزن" عوض بلد موحد من الشمال إلى الجنوب.

إن وتيرة التقدم الاقتصادي ليست سريعة لأن هناك ضروريات استراتيجية تتطلب استثمارات باهظة.

مع انخفاض نسب الولادات، يلتحق عدد أقل من الأطفال بالمدرسة كل عام، وبالتالي يصل عدد أقل من الأفراد إلى سوق الشغل. ولكن المغرب يظل مثقلا دائما بمشاكل البطالة. هل هذه الظاهرة هيكلية؟

لو لم يحدث التحول الديمغرافي، لكانت وطأة البطالة أكثر حدة. نعم، نسبة البطالة مرتفعة في المغرب، ولكنها مرتفعة كذلك في فرنسا، وتبلغ مستويات عالية في إيطاليا وإسبانيا، خاصة بطالة الشباب.

الواقع أن البطالة ليست اختلالا مغربيا فقط، ولا يجب أن ننخدع، فلا يمكن أبدا بلوغ وضع يكون فيه الشغل متوفرا للجميع. بل يجب العمل على تخفيف نسبة البطالة ما أمكنمن خلال تشجيع ما يسمى بـ"الأعمال الصغيرة". وهذه الأعمال لها قيمة اجتماعية، حتى وأن كان مردودها الاقتصادي ضعيفا، بل ومنعدما(...)

رغم وجود مؤشري الحداثة، أي الديمغرافيا والتعليم، ورغم تقارب المستويات الثقافية، أظهرت الدراسات أن الفوارق تظل صارخة ف المغرب. هل هذا مؤشر على أن المجتمع المغربي مازال مسكونا بطابعه الفيودالي القديم؟

لا يجب أن ننخدع، فلا يمكن أبدا بلوغ وضع يكون فيه الشغل متوفرا للجميع. بل يجب العمل على تخفيف نسبة البطالة ما أمكن

هنا أقول لك مرة أخرى إن الفوارق بين الفقراء والأغنياء كانت ستكون أشد لو لم يحدث التحول الديمغرافي، لسبب بسيط: فقبل السبعينيات، لم تكن الطبقات الغنية تنجب كثيرا من الأطفال، ولكنها كانت تأخذ النصيب الأكبر من كعكة الناتج الوطني، أما الفقراء فكانوا يلدون سبعة أطفال وأكثر ولا يحصلون سوى على نصيب متواضع جدا من هذه الكعكة. أما اليوم، فقد تم التغلب إلى حد ما على الفوارق الديمغرافية.

وإذا كان الفقراء مازالوا متضررين من توزيع الثروات، فإنهم صاروا أقل عددا لتقاسم ما يصلهم. ولولا التحول الديمغرافي لكانت الفوارق أكثر بكثير. وقد لاحظنا أن الإقلاع الاقتصادي لدى "النمور الأسيوية" استفاد كثيرا من التحول الديمغرافي، وكان لهذا الأمر أثر على تقليص الفوارق خلال توزيع المداخيل ببلدان مثل كوريا الجنوبية، تايوان، وماليزيا.

في تحاليلك، تربط بين ظهور مظاهرات الربيع العربي وانخفاض الخصوبة. ولكن يبدو أن المغرب نجا من آثار هذه المظاهرات، هل هو حالة استثنائية؟

نعم. لقد أثارني الاستثناء المغربي لما جئت إلى هنا لأول مرة في 1976.وكان المغربُ البلدَ العربيَ الذي تنطبق عليه أكثر ما يمكن أن نسميه "الدولة- الأمة".

أولا، كانت التجمعات الحضرية مدنا حقيقية، بينما كانت القاهرة مثلا تشبه آنذاك مستنقعا. عكفت على دراسة هذه المسألة من خلال الاطلاع على العديد من الكتب، واكتشفت أن المغرب لديه تقليد تاريخي قديم يخول له الحفاظ على مجموعة من القيم التي لم تكن تتوفر في المجتمعات المفككة (sociétés décomposées) بالشرق الأوسط: فلا سوريا، ولا لبنان، والعراق، والأردن، ولا فلسطين تتوفر على تلك "اللُّحمة الوطنية".

أعتقد ان العمق التاريخي لعب دورا في الحد من الخسائر. ولعل هذا ما يفسر لماذا "الربيع العربي" الموجز بالمغرب لم يبلغ الحجم الذي كان له في تونس وليبيا.

هل المغرب أكثر استقرارا لأنه أكثر رسوخا في تاريخه؟

هناك شيء من هذا، وأهل البلاد يؤمنون بذلك. لقد رفض السوريون تلقائيا النظام القائم لأنهم كانوا يحسون أن السلطة بين يدي أقلية، وأنهم مبعدين عنها، وأن حزب البعث، الذي وصل إلى السلطة في الستينيات، يتعامل معهم بعنف.

في الأردن، كان نصف السكان لا يشعرون بالراحة تحت السلطة الهاشمية، لأنهم فلسطينيو الأصل. أما مصر، فتشكل حالة خاصة، فهي "دولة- أمة" واجهت مشاكل عديدة بسبب انفجارها الديمغرافي وبعض الأخطاء الأخرى.

حسب رأيك، ساهم التحول الديمغرافي بالمجتمعات العربية في خلق نفور من الدين.. هذه الظاهرة التي سماها السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر "خيبة أمل العالم"...

في لحظة ما، يحس المجتمع، الذي صار أكثر تعليما وأكثر تمدنا، ويستفيد من تقدم الطب ومن مكافحة أمراض الأطفال، بضرورة أن يكون له أطفال أقل من الماضي. والحال أن هذا التوجه يعاكس تماما تعاليم كل الأديان، فالمسيح يقول: "أَثمروا واكْثُروا واملَؤوا الأرض".

والواقع أن الإسلام أكثر انفتاحا من الكاثوليكية بخصوص الحد من النسل لأنه يجيز اللجوء إلى "العزل" (كوسيلة لمنع الحمل)، فقد كان للإسلام دوما موقف براغماتي. ومع ذلك هناك إحساس منتشر بين السكان يعتبر اللجوء إلى موانع الحمل والإجهاض سلوكا يخالف إرادة الله.

وأعتقد أن المسلمين اليوم يعطون لله ما لله ولقيصر ما لقيصر، والوالدان هما اللذان يقرران عدد الأطفال وليس الدين أو الدولة. فالناس أخذوا في التفكير أكثر في مستقبلهم ومستقبل ذريتهم.

مع تطور التعليم في المغرب، تقول إنه لم يعد بإمكان أب أُمِّي فرض سلطته بسهولة على واحد من أبنائه له مستوى دراسي. هل ينسحب الأمر كذلك على سلطة الدولة؟

نعم، إذا أعاد الابن (البنت) النظر في سلطة الأب داخل الأسرة، فإنه لن يقبل بالطبع أن يتسلط عليه بن علي في تونس أو مبارك في مصر. فالمجتمع يثور بالضرورة لأن التحول حدث على المستوى الأسري والفردي.

مزيدا من الإناث يلجن التعليم والكثير منهم يصلن إلى الجامعة حيث يحققن في الغالب النجاح أكثر من الذكور. هل نتجه نحو المساواة بين الجنسين؟

أعتقد أن هذا الأمر يؤشر على تحولات كبيرة قادمة: المساواة بين الجنسين، الولوج إلى مناصب شغل مرضية تليق بفتاة درست في الجامعة. وأرى أن ولوج النساء إلى الهيآت السياسية سيتزايد، على غرار ما يقمن به على الصعيد الاقتصادي. وستكون لدينا مزيدا من مديرات الصحف والوزيرات والنائبات.

تشير إلى أن للمغرب نظام ديمغرافي غربي أكثر فأكثر، ولكن توزيع الأدوار بين الذكور والإناث مازال يخضع للنظام التقليدي. هل علينا أن نخشى الاختلال؟

لا يجب أن نخدع أنفسنا، فدماغنا يظل هو دماغ الإنسان البدائي. فالرجل يمكن أن يظل، بدون وعي منه، ذكرا مهيمنا رغم كل التطورات التي طرأت على المجتمع. ويلزم الكثير من الوقت للتخلص من هذا الأمر. هناك نساء يلتحقن بالجامعة ويحصلن على نتائج أفضل من نتائج الرجال. وهذا الوضع قد يربكهم ويتسبب في خلق النزاعات. وقد أفلح الكاتب سلمان رشدي في وصف هذا الارتباك الذهني الذي يسببه وجود امرأة مسلمة في مقدمة المشهد.

في الثلاثين سنة الأخيرة، تراجع الزواج بين أفراد العائلة الواحدة كثيرا بالمغرب. ما هي تداعيات هذا الأمر على عقلية الناس؟

لما تتزوج من خارج عائلتك، فأنت تكون أكثر انفتاحا، وهذا يعني اختلاط الأفكار والأسر.. هذا يعني مزيدا من التسامح. فالعائلة تحد من الآفاق، والزواج من خارجها يحفز أكثر التبادل على مختلف الأصعدة.

عن تيل كيل