تختزل الخطوات الثقيلة للرجل ثقل مسيرة مهنية استثنائية. يتحرك داخل مكتبه للمحاماة الذي يختزن في كل ركن منه قصصا لتاريخ المغرب المعاصر.
اختار النقيب محمد الصديقي، قبل أزيد من 54 سنة، مهنة المحاماة، مكرها لا بطلا، بعدما أغلقت في وجهه طريق الصحافة، مع إغلاق جريدة "التحرير"، لسان حال الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أبرز حزب معارض ومقلق لنظام الحسن الثاني، حين كان وليا للعهد ثم ملكا للبلاد.
في إطار هذا الصراع، سلك الصديقي المسار الحقوقي للوقوف في وجه القمع، والدفاع عن مبادئ الحرية والديمقراطية والتقدم، يكشف النقيب السابق، الذي يمثل أحد الوجوه الأخيرة للرعيل الأول من المحامين في البلاد، في أول كتاب له يحمل عنوان "أوراق من دفاتر حقوقي"، سياقات تاريخية حساسة من المسار السياسي للمغرب المعاصر.
تميزت مسيرة الرجل، الذي كان شريكا لعبد الرحيم بوعبيد في مكتبه للمحاماة المقابل لمبنى البرلمان اليوم، بالدفاع عن قضايا المناضلين والمحكومين في قضايا كبيرة، كدفاعه عن الضباط المتورطين في العملية الانقلابية سنة 1972، أو دفاعه عن مجموعة "أطلس" في مراكش، والتي كانت متهمة بتنظيم محاولة اغتيال الحسن الثاني أثناء أداءه للصلاة في المسجد، أو دفاعه عن مجموعة محمد نوبير الأموي، ثم ترافعه عن صديقه وأستاذه وشريكه بوعبيد سنة 1981.
يعترف الصديقي بأن روايته لكثير من الأحداث اتسمت بحيادية كبيرة، لكنها ليست أبدا حيادية سلبية، وأن ما بين السطور يحوي الكثير، ويقول إن الكتاب هو محاولة توثيقية بالأساس، وأن هذا العمل يشجعه على كتابة سيرة ذاتية له بشكل سردي أكثر مستقبلا.
نقف مع محمد الصديقي، في هذا الحوار، الذي أجراه معه موقع "تيلكيل عربي"، عند أبرز المحطات التاريخية، التي عاشها الصديقي، سواء عندما كان ضمن المعتقلين من قلب مقر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي عرف اعتقال أندري أزولاي أيضا، أو قصة محاكمة الزعيم الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد سنة 1981، بسبب موقفه من الاستفتاء في الصحراء أو غيرها من الأحداث الكبرى التي كان شاهدا عليها.
لماذا "أوراق من دفاتر حقوقي" في هذا التوقيت؟
لماذا هذا الكتاب؟ سؤال يصعب علي الإجابة عنه بدقة. الكتاب جاء نتيجة تجمع عدة عوامل، وهي، في أغلبها، تتعلق بالصدف. لقد أنهيت عملي بالمجلس الدستوري سنة 2017، بعدها يمكن القول إني دخلت مرحلة فراغ، فقررت أن أستغل هذا الفراغ، فبدأت بمراجعة ملفات قديمة، لأكتشف عددا من المرافعات، والمراسلات والمقالات والأبحاث، فقررت جمعها.
في رمضان من العام الماضي، اتصل بي نقيب هيئة المحامين في الرباط، فطلب مني إحياء سهرة رمضانية، عبارة عن حوار حول مساري المهني. رحبت بالفكرة، واجتمعنا يوم عاشر رمضان. كانت جلسة من أربع ساعات من النقاش، وطرحت علي أسئلة، وأجبت عنها، بعد ذلك أفرغنا ذلك التسجيل، ما منحنا 100 صفحة، ففكرت في كيفية استغلالها، وقررت أن أربطها وما اكتشفته في مراجعة ملفاتي القديمة، من هنا جاء كتاب "أوراق من دفتر حقوقي".
أما عن لماذا هذا الكتاب؟
أولا، هو مساهمة في عرض تجربة معينة، وثانيا لأن هذه التجربة مبنية على أساس رغبتي منذ الصغر في المشاركة في الشأن العام. فقد التحقت بحزب الاستقلال وأنا في سن الخامسة عشر، وكان ذلك في عام 1952، ثم نشطت في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
وبعدما تخرجت من الجامعة، اشتغلت سكرتيرا للتحرير بجريدة "التحرير"، ونفس الشيء بالنسبة للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي تحملت فيه مسؤوليات عديدة. ما يعني أني كنت مهتما بالشأن العام، وساهمت بقدر أو بآخر في تقديم عطاء، أعتقد كان له دور في تقدم الأشياء، سواء في الإعلام أو في المحاماة، في مسائل العدالة وقضايا حقوق الإنسان.
إذن رأيت أنه من واجبي أن أقدم للرأي العام تجربتي، لعلها تكون مفيدة، وأن تكون حافزا للباقين، أن يسيروا على هذا الدرب.
يكشف الكتاب أن ليلة اقتحام قوات الأمن لمقر حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية صيف 1963، كان من بين المعتقلين أندري أزولاي، مستشار الملك اليوم، ما الذي كان يفعله في مقر الحزب تلك الليلة؟
كان الصراع بين المعارضة والحكم قد بلغ من الحدة درجة عالية، فتلك الليلة يوم 16 يوليوز 1963، كان يوم اجتماع اللجنة الإدارية لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكان مخصصا لدراسة الموقف الذي سيتخذه الحزب بشأن الانتخابات البلدية والقروية التي كانت ستجري في شتنبر من السنة ذاتها، كل المؤشرات كانت تدل على أن الحزب يسير في اتجاه المقاطعة.
أما بالنسبة للحكم، فقد كان يريد استغلال الاجتماع لضرب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وليظهره أنه حزب لا يسعى إلى المشاركة في المجال السياسي بالوسائل الديمقراطية، وأنه يسعى إلى التآمر ضد الدولة من أجل تحقيق غاياته. اعتقد الحكم أن الاجتماع سيكون وسيلة لضبط الحزب في حالة تلبس، وهو يحيك مؤامرة ويستعد لقلب النظام.
وهذا كان أمرا مجانبا للصواب. لقد كان الاجتماع سياسيا صرفا، يحضره أعضاء اللجنة الإدارية، ومن حسن الصدف، انتبه بعض الإخوان إلى أنه من المفيد إحضار بعض الصحافيين للاجتماع، من بدايته إلى نهايته، ليكونوا شهودا، وحتى لا يقال إن الاجتماع كان بغرض الإعداد لمؤامرة تدبر في الخفاء.
وقد حضر هذا الاجتماع، السيد أندري أزولاي، رئيس تحرير "ماروك أنفورماسيون"، وهي جريدة كانت مقربة من الحركة التقدمية، دعاه الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، ومن الصدف، أيضا أن أزولاي أتى برفقة ضيف آخر وهو الصحافي الأمريكي "طوم برادي".
ففي الوقت الذي أقدمت فيه قوات الشرطة على كسر أبواب مقر الحزب واقتحام مبناه، فوجؤوا بكون الاجتماع ليس مقتصرا على قيادة الحزب، وعلى أعضاء اللجنة الإدارية، بل هناك صحافيان اثنان.
رغم ذلك أوقفوا الجميع، وأنزلونا عنوة من مقر الحزب، وأخذونا إلى كوميسارية المعاريف. وقد كانت الساعة تشير حينها إلى التاسعة ليلا، حيث وضعونا بقبوها السفلي، لكنهم عزلوا كلا من الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد والسيد أندري أزولاي والصحافي الأمريكي، والأستاذ محمد التبر، الذي كان حينها محاميا اتحاديا ونائبا برلمانيا عن الحزب، في مكان آخر لوحدهم، ليجري، في ما بعد، إطلاق سراحهم.
أما باقي الأعضاء، ومن بينهم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي ومجموعة أخرى من الأطر الحزبية، فقد احتفظ بهم في ذلك القبو. وبقينا هناك أكثر من شهر، وكان رجال الشرطة يأتون في كل يوم، وينادون على مجموعة من ستة أشخاص، ليأخذوهم إلى وجهة غير معروفة. اكتشفنا في ما بعد أنها كانت إما دار المقري في الرباط، أو معتقل درب مولاي الشريف في الدار البيضاء.
وبقيت أنا ضمن المجموعة الأخيرة في الكوميسارية، والتي كانت مكونة من 20 شخصا من الأطر الاتحادية والمناضلين، إلى غاية ما اقتادونا بعدها إلى درب مولاي الشريف، وكان ذلك عند منتصف ليلة من ليالي الأسبوع الأخير من شهر غشت سنة 1963.
في تلك الفترة "تهلاو فينا". كان هناك ضرب وركل وسب واستنطاق. وللإشارة، لم يكن ذلك التعذيب يصل إلى المستوى الذي تعرضه له المناضلون في دار المقري أو حتى في درب مولاي شريف، بقينا هناك ثلاثة أيام، ليطلقوا سراحنا عند الساعة الثالثة صباحا في آخر شهر غشت.
حسب شهادتك، تم إطلاق سراحكم بشكل غريب؟
أطلق سراحنا في الخلاء. لم أعرف أين أنا، كان مكانا مقفرا، كان همنا الوحيد أن نعثر على الطريق، وتطلب منا ذلك أزيد من ساعة من البحث وسط الظلام، ثم عثرنا على الطريق التي قادتنا إلى الدار البيضاء.
كان مروركم بمعتقل درب مولاي الشريف منعطفا حاسما في مسارك المهني، لتنتقل من الصحافة إلى المحاماة. كيف تم هذا التحول؟
لم يكن أمامي من خيار، لم أفكر أبدا في العدول أو الرجوع عن اختياري الأساسي، فبعد فترة راحة لأيام، عدت إلى مقر الجريدة لأستأنف عملي، لكنني وجدتها متوقفة عن الصدور، بسبب الاعتقالات الكثيرة التي طالت المشتغلين فيها، إضافة إلى الحصار المضروب عليها، بسبب ما تقوم به السلطات ضدها وضد العاملين فيها.
كان يستحيل أن يسمح الحكم في ذلك الوقت بصدور جريدة تحكي عن الاعتقالات وما يتعرض له مناضلو الحزب من مآس. من هنا، وجب علي أن أبحث عن طريق آخر للعمل، لكن في نفس الإطار. ففكرت في اللجوء إلى المحاماة، لأنها كانت الوسيلة التي ستفتح لي الباب لمواصلة مسيرتي، بعدما تعذر ذلك من خلال الصحافة. وعندما وضعت أولى خطواتي في مساري الجديد، كان ذلك بمكتب عبد الرحيم بوعبيد، قائد الاتحاد.
في البداية، تقدمت بطلب للتمرن في مكتب محمد التبر، قبل أن يقترن اسمك بعبد الرحيم بوعبيد. قلت إن التبر كان متوجسا منك. لماذا؟
عبد الرحيم بوعبيد شخصية فريدة في تاريخ المغرب، أما المرحوم الأستاذ محمد التبر فقد كان محاميا، كأي محام آخر. كان متميزا بكفاءته المهنية، أما التزامه السياسي فلم يكن أبدا في مستوى التزام بوعبيد إطلاقا.
صحيح أنه دافع عن مجوعة من المناضلين، وبعض القادة في أوائل الستينيات، ومن ثمة لما أتت الانتخابات البرلمانية في 1963، نجح فيها، وكان برلمانيا متميزا.
فهو لم يكن مرتبطا بالحزب منذ نشأته الأولى، ولم يكن عضوا فاعلا، سواء في حزب الاستقلال أو الاتحاد. لذا، فمن الطبيعي أن ينظر إلى شخص يرتبط ويعيش مع قيادات الاتحاد كعبد الرحمان اليوسفي وعبد الرحيم بوعبيد، بنظرة توجس. كان من حقه أن يتساءل إن كان تمرني سيخلق له مشاكل.
عاشرت أبرز القادة الاتحاديين، هل لك أن تقول لنا ما الفرق بين عبد الرحمان اليوسفي وعبد الرحيم بوعبيد؟
هذا سؤال صعب. في الحقيقة، تجمعهما صفات ومزايا كثيرة جدا، وما يفرقهما هو أن بوعبيد أتيحت له في بداية مشواره السياسي، فرص ليبرز على الساحة الوطنية، منذ التوقيع على عريضة الاستقلال، ومنذ توليه الإشراف على جريدة "الاستقلال" التابعة للحزب والناطقة بالفرنسية وذلك طوال سنوات، ثم ارتبط في إطار عمله باللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، ولو أنه لم يكن عضوا أساسيا فيها بصفة رسمية، لكنه ارتبط بالاتصالات التي كانت تجريها الحركة الوطنية مع المرحوم محمد الخامس.
من هنا تمكن من احتلال مركز مهم جدا في الحركة الوطنية، وفي الساحة السياسية عبر علاقته بالقصر، وولي العهد آنذاك المرحوم الحسن الثاني، وبالتالي فقد كان له وجود متميز في الساحة الوطنية.
أما بالنسبة لعبد الرحمان اليوسفي، فقد كان "قاعديا"، بمعنى أنه كان يشتغل في القاعدة. ففي الدار البيضاء، اشتغل اليوسفي على بناء الحركة النقابية، وقد كان له دور أساسي في مأسسة العمل النقابي على الصعيد الوطني، وبالأخص في الدار البيضاء، كما كان له دور أساسي في الحركة الشبابية، وفي تهيئ الظروف التي ستسمح بنشوء حركة المقاومة.
اليوسفي كان رجل التنظيمات القاعدية، وهذا ما سمح له بأن يكون من مؤسسي حركة المقاومة وجيش التحرير، فبقي بعيدا عن الأدوار الأولى والأضواء، التي كان القادة الرئيسيون في حزب الاستقلال يتمتعون بها.
هذه إحدى وجوه الفرق بينهما، ثم إن الجاذبية التي كان يتمتع بها بوعبيد، كانت جاذبية قوية جدا، سواء في علاقته بالأطر الاتحادية أو بالجماهير، بينما كان اليوسفي يفضل الاشتغال في صمت.
صحيح أن اليوسفي كانت له جاذبية مؤثرة جدا، لكن لا تكتشفها من أول وهلة، عليك أن تعايشه لفترة لكي تكتشفها، أما بوعبيد كان من أول وهلة يأخذك، كيفما كنت ويؤثر عليك لتصبح مشبعا بما يمثله وبما يجسده، وهذا أيضا فرق بينهما.
لكن في العمق، كلاهما كان رجلا وطنيا من الدرجة الأولى، وكلاهما كان رجلا تقدميا، وكانا يمثلان النزاهة والاستقامة في الأخلاق، وكلاهما كان له إحساس قوي بالكرامة، كما أنهما كانا يرفضان أن يستعملا من أي جهة كانت لغير قضايا الوطن وقضايا المواطنين.
كنت محاميا متخصصا في الدفاع عن قضايا المناضلين الاتحاديين وترافعت أيضا عن المتورطين في أحداث مولاي بوعزة لسنة 1973. هل دفعت ضريبة عن ذلك؟
بطبيعة الحال، لكل شيء ثمن. صحيح أن ذلك جر علي متاعب، لكنها متاعب كنت مستعد لها ولتحملها، لأني كنت أمارس تلك المهام عن إيمان وقناعة. كنت أدافع عن رفاق كأني أدافع عن نفسي أيضا. صحيح أن أوضاعي لم تكن أوضاع مجموعة من المعتقلين، لكن كان بالإمكان أن أكون واحدا منهم.
لقد قمت بهذه المهمات طيلة سنوات طويلة، وهو الأمر الذي لم يكن سهلا أبدا. كان هناك ثمن يؤديه الإنسان من أعصابه ومن صحته، وحتى ماديا، إذ لم أفكر حينها بجمع المال، إذ كنت أكتفي دوما ولا زلت بالقليل، لكني كنت مرتاحا كل الارتياح، لأنني كنت مؤمنا بأن هؤلاء المعتقلين هم ضحايا.
حضرت عملية إعدام ضباط متورطين في محاولة إسقاط طائرة الحسن الثاني العائدة من فرنسا، كيف عايشت عملية الإعدام هذه؟
أولا، دافعت عن هؤلاء الضباط في إطار المساعدة القضائية، يعني أنني لم أكن مكلفا من طرف عائلاتهم ولا أي جهة أخرى. نقيب المحامين هو الذي كان كلف مجموعة من المحامين بالدفاع عنهم.
يوم الإعدام كانت ليلة صعبة، لأنه ليس من السهل أن يحضر محام إعدام موكليه، خاصة إن كان قد دافع عنهم، وتخابر معهم، وعرف تفاصيل قضيتهم.
هل كانوا متشبثين ببراءتهم في هذه القضية، ويتعلق الأمر بعبد القادر زياد والرقيب الطاهر البحراوي؟
لم يكونا القياديان، بل مجرد مأمورين، وهذا ما كانا يدافعان عنه، إذ كانا يتمسكان بهذا الطرح كوجه للدفاع عن نفسيهما. فالنسبة لهما، المسؤولان عن المحاولة الانقلابية كانا هما أمقران واكويرة، ولم يكن أمامهما خيار آخر غير تنفيذ الأوامر، وإلا كان مصيرهما التصفية.
في كتابك نجد حضورا قويا لأبرز قادة الاتحاد كاليوسفي وبوعبيد والفقيه البصري، لكن لا نجد حضورا قويا لعبدالله إبراهيم. لماذا؟ هل لأنه لم يؤثر فيك كبوعبيد مثلا؟
لم يؤثر في لسبب بسيط، هو أني لم أعاشره، ولم تكن بيننا علاقات، فلم أشتغل معه، لا في المجال السياسي ولا غيره. لقد كان المرحوم عبد الله إبراهيم قليل المخالطة، رغم أنه كان شخصية وازنة، إلا أنه كان يعيش في شبه عزلة، بسبب عدم التفاهم بين القيادة السياسية للحزب وقيادة الاتحاد المغربي للشغل، فقرر الابتعاد عن الجماهير الواسعة في الاتحاد الوطني، وفضل السير مع الاتحاد المغربي للشغل، لكنه كان شخصية وطنية وتقدمية فذة، ولم تربطني به أي علاقة مباشرة في العمل أو في الممارسة السياسية.
تطرقت في كتابك لفرضية جديدة، هي أن محاكمة عبد الرحيم بوعبيد لم تكن لها أية علاقة بموقفه من قضية الاستفتاء في الصحراء المغربية. هل لك أن توضح؟
في تقديري أن السبب الرئيسي هو الموقف من قضية الصحراء، وقضية بلاغ الحزب بشأن قضية الاستفتاء، لكن من الصدف التاريخية، أو من الصدف الماكرة في التاريخ، أن يجري إصدار ذلك البلاغ بعد أن قرر الحزب مقاطعة أشغال البرلمان، الذي مدد له من طرف الملك الحسن الثاني بطريقة اعتبرها الحزب "غير ديمقراطية وغير قانونية".
وضع عبد الرحيم بوعبيد في السجن، وهو من كان وراء هذا الموقف مع الإخوان البرلمانيين، جعل بإمكانه مسايرته للمقاطعة غير فعالة. ولما وجد البرلمانيون أنفسهم وجها لوجه وحدهم مع النظام والحكم، افتقدوا المشورة مع بوعبيد الذي كان خلف أسوار السجن، بل حتى عندما أخرج من السجن، أخذ إلى المنفى في بلدة ميسور، حتى صارت كل إمكانية للاتصال به أو أخذ المشورة منه، أو معرفة موقفه ورأيه أو كيفية التعامل مع المستجدات، غير ممكنة على البرلمانيين.
وهذا ما جعلني أفكر، بعد هذه السنين، أن موقف البرلمانيين والقيادة الحزبية من العملية السياسية المتمثلة في تجديد البرلمان دون تنظيم الانتخابات التشريعية في وقتها، ربما يكون السبب الذي أدى بالنظام إلى المجازفة باعتقال بوعبيد.
باعتبارك كنت محاميا لعبد الرحيم بوعبيد في محاكمته سنة 1981. هل أثر السجن فيه بعدها؟
لم يتمكن بوعبيد من لعب الدور الذي كان يجب أن يلعبه في مغرب الاستقلال. لماذا؟ لأنه كان شخصا يعتقد أن من حقه أن يشارك في الحكم، لا مجرد منفذ أو أداة من الأدوات التي تستعمل اليوم ويرمى بها غدا. لم يكن لبوعبيد يوما أن يقبل بهذا على الإطلاق.
كان يريد أن يقوم بدور أساسي في مسيرة بناء المغرب الحديث: مغرب الاستقلال، المغرب الديمقراطي، مغرب تقدمي ومغرب يخطط لبناء الصناعات. وهذا ما لم يكن مقبولا من الطرف الآخر. كان يراد من بوعبيد أن يكون أداة.
قضية اعتقاله أثرت عليه بكل تأكيد، لكن شخصيته كانت قوية، مجرد الاعتقال يمكن أن تؤثر فيه عاطفيا أو إنسانيا، لكنها لم تدفعه أبدا لأن يتغير.