شملت تغطية "تيلكيل عربي"، لليوم الخامس على التوالي، أغلب المناطق التي ضربها زلزال المغرب، بأقاليم الحوز وشيشاوة وتارودانت، بعدما وصلنا إلى مركز أسني يوم السبت 9 شتنبر، ولم تتوقف مهمتنا يومها صعودا، إلا عند آخر نقطة كان يمكن الوصول إليها؛ حيث قطعت الطرق، خاصة في اتجاه مدينة تارودانت.
سوف نسمح لأنفسنا هنا للتحدث بصيغة المتكلم؛ لكي تكون الرسالة واضحة، وللتأكيد على أن هبة المغاربة التضامنية مع إخوانهم المفجوعين والمتضررين من الزلزال لا يجب أن تتوقف بعد أيام؛ لأنه، وبحسب المعاينات، لا نزال في البداية، والمعركة لإصلاح كل الأضرار ومخلفات الزلزال ستحتاج وقتا، ومن ثمة، دعما وانخراطا متواصلا في جهود التخفيف عن المنكوبين.
وفي حديث مع أحد المسؤولين الكبار المشرفين في الميدان على عمليات الإغاثة والإنقاذ والتطبيب وحفظ النظام العام، أكد لـ"تيلكيل عربي" أن "هذا الامتحان الوطني سوف يمتد لأشهر".
معايير المساعدات والتضامن
بالنظر إلى أن أكبر عدد للوفيات المسجلة جراء زلزال المغرب كان بإقليم الحوز، فإنه نال الحصة الأكبر من المساعدات الإنسانية والإغاثة، وحتى التغطية الإعلامية؛ حيث بدأ وصول كل أشكال التدخل، منذ الساعات الأولى من الصباح الموالي للهزة الأرضية.
وصل "تيلكيل عربي" إلى عدد من دواوير إقليم الحوز المتضررة، وما سجلناه هو أن رحلة الصعود، في صباح يوم الأحد 10 شتنبر، نحو منطقة "ويرغان" في اتجاه دوار "أمسكين"، مرورا بعشرات الدواوير الأخرى، وحتى منطقة "إجوكاك"، ثم "ثلاث نيعقوب" وما بعده، اختلفت عن رحلة النزول في طريق العودة إلى مركز "أسني".
تغير حجم ما تدفق من مساعدات وما وضع من تجهيزات لمهمات الإغاثة، خلال ساعات، مع تسجيل أن الدواوير البعيدة لم تصلها الإغاثة، إلا بعد مرور ثلاثة أيام من الفاجعة، بسبب عدم وجود طرق تؤدي إليها، ولو "بيست"، وأيضا بسبب انقطاع الاتصال بعدد منها، قبل أن تتدخل مروحيات القوات الملكية المسلحة الملكية والدرك الملكي.
في "أسني"، شيّد مستشفى ميداني عسكري ضخم، وجرى تهييء ساحة كبيرة محاذية لمقر مركز قيادة الدرك، من أجل إيواء المتضررين تحت خيم زرقاء من الحجم المتوسط.
هذا ما يخص الحوز ودواويره المتضررة. فماذا عن باقي دواوير الأقاليم الأخرى؟
هنا لن نتحدث عمّا ينقل بخصوص ورزازات أو أطراف من أزيلال، لأنه، وللأمانة، لم نصلها، بسبب طاقمنا الصغير الذي يتكون من فردين فقط؛ قبل أن يتلحق بنا في اليوم الثالث الزميل ياسين مجدي، إذ يصعب تغطية كل هذه الجغرافيا المتضررة والواسعة، خاصة أنه في هذه الظروف، كنّا السائق والمنسق والمعدّ لما نأكل والباحث عن مكان نبيت فيه، وباقي التفاصيل المرتبطة بمهمتنا الصحفية.
الأهم، في سياق "ليس من رأى كمن سمع"، لم يكن حجم تركيز المساعدات والإغاثة بحجم ما سخّر لإقليم الحوز. وحين نقول الحوز على سبيل التدقيق، نقصد الشريط الذي يبدأ من مدينة "تحناوت" صعودا نحو الجبال.
من مات قد مات، ونحن هنا أمام تدبير حياة من بقوا على قيد الحياة.
يوم الثلاثاء 11 شتنبر، وصل "تيلكيل عربي" إلى الدواوير المترامية على سفوح وقمم منطقة "أمزميز". وحسب الشهادات التي استقيناها، لا تزال الاحتياجات كثيرة، خاصة ما يتعلق بالخيم والأفرشة والأغطية والملابس والأحذية، بالإضافة إلى مستلزمات النظافة.
نفس الشيء عند بلوغ دواوير قمم إقليم "شيشاوة"، تحديدا الدواوير التي تقع بعد مركز "سبت مزودة"، وفي الطريق نحو "إمنتانوت".
في كل هذه الدواوير، دون الأخذ بعين الاعتبار أعداد الضحايا، الحاجيات مشتركة، ووجب التركيز على كل نقطة تضررت من الزلزال، وأولها حاجيات الإيواء والكسوة والتدفئة.
تخيل في أحد الدواوير التي مررنا بها 50 عائلة بكل أفرادها لاتزال تنام تحت "سقف" خيمة واحدة!
"فوضى" المساعدات وسماسرتها
داخل محل بمركز "سبت مزودة"، حيث قررنا أن نستريح قليلا بعد العودة من منطقة "الزاوية النحلية"، قبل مواصلة الرحلة إلى دواوير أخرى، رصدنا أحد الشباب بعدما طرحنا سؤالا بشأن طريق الوصول إلى قرى "آيت حدو يوسف".
توجه إلينا وسألنا: "واش نتوما هنا باش تديو المساعدات؟ ممكن نوريكم دواور محتاجة". كان أنيقا بلباس يشبه نوعا من المهاجرين المغاربة، ولعله هنا لقضاء عطلة الصيف (الغرض من هذا الوصف التدقيق، وليس التصنيف)؛ حيث كان تتوسّط جسده حقيبة يد صغيرة.
تبادلنا معه أطراف الحديث قليلا، وطلبنا منه أن يسجل معنا فيديو حول ما أفاد به حول دوره كـ"متطوع ينسق توزيع المساعدات القادمة إلى المنطقة". لم يقبل ولم يرفض، لكن في تلك اللحظة، وقف شخص آخر وبدأ يخاطبه باللغة الأمازيغية، بنبرة لوم وغضب.
لم يعرف الشاب ولا الشخص الآخر أن الزميل محمد فرنان، وبفضل معرفته القليلة باللغة الأمازيغية، فهم ما دار بينهما.
الرجل الغاضب عاتب الشاب على "تحويل المساعدات نحو دواوير بعينها دون أخرى"؛ حيث قال له: "علاش كتصيفط غير لي بغيتي ومخلينا حنا من حقنا في داكشي؟!".
الصادم في الواقعة أن الشاب صهر أحد من رافقونا إلى دواوير في أعلى الجبال لم تصلهم الخيم والأغطية والأفرشة، رغم أننا صادفنا قوافل بمبادرات فردية على طول الطريق محملة بهذا النوع من المساعدات.
ما حدث أمامنا ليس واقعة معزولة. فقبل يومين، صرح لـ"تيلكيل عربي" ساكنة أحد الدواوير بأن رئيس جماعتهم "حرمهم من الاستفادة من المساعدات العاجلة، لأسباب انتخابية".
اليوم الأربعاء، وعند العودة إلى شيشاوة، صادفنا المساعدات قادمة من طنجة: قرابة عشر شاحنات ترابط على جنبات الطريق، واحدة منهم تفرغ حمولتها، لكن هذه المرة ليس لفائدة المتضررين المفترضين مباشرة، بل داخل مخزن كبير، ومن يشرف على العملية هم أفراد من القوات المسلحة الملكية.
قبل ذلك، صادفنا قافلة تضامنية بمبادرة شخصية، تقودها نساء من سطات، أُفرغت حمولتها كلها بدوار "إغرن علا". طلبنا من المشرفة على القافلة أن توازن في توزيع ما جئن به، وكان بكميات كبيرة، وأخبرناها بأن هناك دواوير في الأعلى أكثر حاجة، خاصة فيما يتعلق بما خلفه تضرر المنازل. حاولنا التنسيق من وازع إنساني ونظرة شمولية حول الحاجيات، لكن انتهت القصة برفع شعار: "راسي يا راسي ومن بعد يتقطعو كَاع الريوس".
يجب أن تقرر الدولة بمختلف مؤسساتها، وبشكل عاجل، تنظيم توزيع المساعدات. صدمنا اليوم بحديث مشرفين على قوافل قالوا إنهم نسقوا مع أناس أكدوا أنهم "متضررون"، لكن عند وصول المساعدات إليهم، وقف المتضامنون على واقع مغاير تماما لنداءات الاستغاثة الزائفة.
ليس كل ما يتم من تضامن مشوّه، ولكن القليل من التشوّه في البصر والبصيرة يحتاج للعلاج العاجل كي لا يصيب بعمى الجشع والتطبيع معه.
الأطنان من المساعدات وجهت للمناطق التي ضربها الزلزال، خاصة شريط جبال إقليم الحوز الحيوي، وكميات أخرى ضخمة شدت الرحال إلى باقي الأقاليم، بالإضافة إلى ما سخرته الدولة بجيشها وأمنها ومختلف مؤسساتها. ومع ذلك لازلنا نتحدث عن حاجة عشرات الدواوير للمساعدة؟!
"جشع البوز" و"سياحة الزلزال"
يوم الأحد 10 شتنبر، وجهنا نداء عبر "تيلكيل عربي" كتب بمداد صرخة المتضررين؛ مفاده أن مناطقهم المنكوبة ليست منتجعا سياحيا، ولا الفاجعة فرصة لالتقاط صور ترفع مؤشر أسهم بورصة مواقع التواصل الاجتماعي.
في ذلك اليوم، وعند العودة من مركز "ثلاث نيعقوب"، اضطر عناصر الدرك الملكي، أكثر من مرة، لإيقاف حركة سير السيارات العادية، من أجل إفساح المجال أمام مرور سيارات الإسعاف وعربات الجيش ومعدات فتح الطرق.
عند نقطة من النقاط التي يصعب فيها المرور في الاتجاهين، وقف شاب يحاول المساعدة، بعدما نزل من دراجته النارية (C90)، كان قريبا لنافذة السيارة، فبادرنا بسؤاله: "واش أنت خدام هنا مع المخزن؟". أجاب: "لا".
سألته مرة أخرى: "ياك لاباس؟ أشنو جابك هنا؟ واش ساكن هنا؟ عندك شي عائلة هنا؟ توفى ليكم شي حد هنا؟". فرد ببوردة دم: "أنا جيت من مراكش غا باش نتفرج في الزلزال".
جواب قطعا يردده اليوم المئات من تجار البوز، مرضى "الشو" في مواقع التواصل الاجتماعي، مهووسون ومهووسات حوّلوا الخراب لما يشبه استوديوهات التصوير، أو "طابي" عروض الأزياء.
ليلة الثلاثاء/الأربعاء، توقفت الطريق بين مركز "ثلاث نيعقوب" ومنطقة "ويرغان"، لسبع ساعات متواصلة. شلّت حركة كل وسائل التدخل الموجهة للإغاثة والإنقاذ، وأيضا التطبيب والمستعجلات؛ لأن عدد "السيارات النفعية" التي يمسك من هم بداخلها بهواتفهم الذكية لتوثيق أكبر عدد من "السطوريات" يفوق أعداد ما هو موجه للمنطقة؛ لأغراض لا تقبل التأجيل أو التأخير.
أكيد أنكم طالعتم ما ينشره تجار الكوارث افتراضيا، حتى أن بعضهم ترجم حرفيا وفعليا غرض سفره إلى المناطق المنكوبة بأنه لأجل "الشو" لا غير، وحصد ما تيسر من "لايكات" وأموال "الأدسنس".
أزمة حقيقية لاتزال قائمة تهم الأغطية والأفرشة، وما يوصفون ويصفن ب"المؤثرين والمؤثرات"، اختاروا واخترن إطالة الإقامة هناك ب"بيجامات" من حرير، والاستفادة بدورهم ودورهن من "المانط" من أجل قضاء ليالي مدفوعة التكاليف هناك، لغرض توثيق ما يرفع من أسهم اشباع الأرصدة و"البوز".
وما يجمع هؤلاء - ولكي لا نكون جاحدين ونضع الجميع في سلة واحدة، دعنا نقول أغلبهم - هو تواجدهم حيث الأضواء الكاشفة مسلطة على جزء فقط من الفاجعة، وبعيدا عن الأضواء هم مختفون، دون أن ننسى نشر فيديوهات وصور لأطفال في سلوك قبيح ومجرّم بالقانون، فضلا عن استرزاقهم للتفاعل من خلال استغلال الحاجة التي تسببت فيها كارثة.
بعضهم وبعضهن، بلغوا وبلغن مع صعودهم وصعودهن نحو مناطق الزلزال، قمة جبل الاتجار في البشر افتراضيا، يعيدون ويعدن تدوين بمنشورات بئيسة إحياء كبار أسواق النخاسة، لكنهم يغفلون ويغفلن أنه هنا والآن لهؤلاء المفجوعين كرامة لا يمكن مساومتهم عليها، وإن سرقت ما يمسها، فإنك اقترفت الجرم في غفلة منهم ومنهن.
المغاربة أمام امتحان كبير. فهذه الفاجعة لا تشبه ما سبقها؛ لأن نفَسَ تدبيرها سيكون طويلا. وكما نجحوا في هبة التضامن قولا وفعلا، يجب أن ينتفضوا كي تستمر المبادرات بدون تشويه لهذا الحس الوطني الاستثنائي. ومعركة مواجهة آثار الزلزال تحتاج لأن تستمر لأشهر، بل المعركة الكبرى لما بعده تحتاج لسنوات.