من أرقى وأنجح خيارات و حلول النزاعات الاقليمية التي وصلت اليها أنظمة الحكم ضمن القوانين والدساتير الدولية ، للحد من الحروب والصراعات والتطاحنات العنيفة و الهدامة و من أجل السلم وتهدئة الأوضاع : خيار وحل الحكم الذاتي.
الحكم الذاتي هو خيار تنظيمي مجالي يعني قدرة جماعة أو منطقة معينة على اتخاذ قراراتها وإدارة شؤونها المباشرة واليومية بنفسها، في إطار الضوابط القانونية والدستورية التي تهمها وتهم محيطها .
أما على مستوى السياقات والإطارات القانونية والسياسية، فتبني الحكم الذاتي يعني قدرة منطقة جغرافية أو مجموعة "عرقية "أو ثقافية معينة على إدارة شؤونها الاقتصادية والثقافية والإدارية المحلية ،والتمكن من بعض السلطات السياسية دون الخضوع الكامل لسلطة الحكومة المركزية، ودون الانفصال عن الفضاء الوطني العام وسلطة الدولة الأكبر أو الدولة الأمة.
إقليم جنوب تيرول (ألـتو أديجي) في شمال إيطاليا يبلغ عدد سكانه حوالي 535,000 نسمة تقريبًا. أما مساحته فتقدر بحوالي 7,400 كيلومتر مربع.
يتميز الإقليم بكثافة سكانية منخفضة نسبيًا، بسبب طبيعة تضاريسه الجبلية، حيث يقع في جبال الألب ويضم مناظر طبيعية خلابة، مما يجعله وجهة سياحية رئيسية.
إقليم تيرول، وتحديدًا جنوب تيرول أو ألـتو أديجي (الجزء الواقع في إيطاليا)، مرّ بصراع طويل من أجل الحكم الذاتي بسبب تاريخه الفريد وهويته الثقافية المتميزة. بعد ضمه إلى إيطاليا في نهاية الحرب العالمية الأولى، شعر السكان الناطقون بالألمانية بالتهميش الثقافي والسياسي تحت الحكم الإيطالي .
خلال حكم موسوليني في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، تعرض الإقليم لسياسات تهدف إلى “إيطاليته” قسرًا، بما في ذلك فرض اللغة الإيطالية في المؤسسات والمدارس وتشجيع الهجرة من أجزاء أخرى من إيطاليا إلى الإقليم.
بعد الحرب العالمية الثانية، ومع تنامي الشعور بالهوية الوطنية، بدأت النمسا تطالب بحقوق أكبر للأقلية الناطقة بالألمانية في جنوب تيرول. أدى ذلك إلى اتفاقية “غراتسي-دي غاسبيرس” في عام 1946، والتي نصّت على منح الإقليم حكمًا ذاتيًا محدودًا داخل إيطاليا. ولكن هذا الحكم الذاتي لم يكن كافيًا للعديد من السكان المحليين، مما أدى إلى استمرار التوتر.
في الخمسينيات والستينيات، تصاعدت الحركة الانفصالية وحدثت احتجاجات، بل حتى هجمات مسلحة للمطالبة بحقوق أوسع. و في الستينيات، تدخلت الأمم المتحدة بناءً على طلب النمسا، مما دفع إيطاليا إلى إعادة النظر في ترتيبات الحكم الذاتي، وفي عام 1972 تم التوصل إلى اتفاق جديد يمنح جنوب تيرول حكمًا ذاتيًا واسعًا .
اليوم، يتمتع جنوب تيرول باستقلالية كبيرة في قضايا مثل التعليم، واللغة، والضرائب، مما يتيح له الحفاظ على هويته الثقافية. وقد ساعد هذا الخيار لنظام الحكم الذاتي الواسع على تخفيف التوترات وإرساء السلام في الإقليم، حتى أصبح نموذجًا في أوروبا للتعامل مع الأقليات الثقافية والمناطق ذات الهوية المميزة.
و يعود سبب خيار الحكم الذاتي في هذه المنطقة إلى تاريخها الفريد وتركيبتها السكانية، حيث أن الإقليم كان جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما تم ضمه إلى إيطاليا. معظم سكانه ينطقون بالألمانية ويعتزون بهويتهم الجرمانية.
ويتضح جليا أنه رغم انتماء جنوب تيرول إلى مجال الاتحاد الأوروبي ،الذي ينعم بأعرق الديمقراطيات في العالم والتاريخ الأسود للصراع بين العرقيات الجرمانية واللاتينية،فإن منطق العقل والحكمة والتصبر،خلص إلى اعتماد نموذج الحكم الذاتي كحل وحيد لضمان الاستقرار والسلام والتقدم.