بين أحضان الافتراضي.. خلف الأبواب المغلقة.. وأمام عدسات كاميرات الهواتف، شباب يصنعون جزءا كبيرا من مستقبل المغرب في غفلة من السواد الأعظم لمجتمعه بصيغته التي تتوهم أنها الواقع.
قبل أشهر من اليوم، طرحت أكثر من مرة سؤالا حول دوافع اهتمام فرنسا المتزايد والمنظم بالصناعة الموسيقية بالمغرب، والدفع بجعل وجوه "الراب" المغاربة، مؤلفين لدى الفرنسيين عبر توظيف جميع الوسائل والقنوات، بل حتى إنزالهم لأرضية ملاعب كرة القدم أمام عشرات الآلاف من المشجعين بالمدرجات، وملايين المتفرجين أمام الشاشات.
لكن، لماذا كل هذا الاهتمام؟ هل هو في حدود عشق الفن والموسيقى؟ أم أنه يتجاوز ذلك لأجل غرض استثمار مبكر في تحولات ثقافية تطرأ وستطرأ؟
الجواب هو: نعم استثمار مبكر بوعي استباقي؟
كيف؟
نهاية الأسبوع المنصرم طرح مغني الراب الشاب "peuse flow" ما يصفه محترفو هذا النوع الغنائي المتمرد ب"EP". طرح ما يمكن رفعه دون حرج، لدرجة درسٍ ثقافي وفني وغنائي وسياسي ومجتمعي وفلسفي... يكاد يلامس بكل استعاراته مستوى أرفع من احتراف الفن والغناء.
بل تضمن الدرس أيضا، مقاربة إنصاف اللسان الأمازيغي مع التأكيد أنه حي يتحرك. أن يكون مصدر إلهام وابداع، توظيف كلماته وحكمه وحمولاته، لا يمر بالضرورة عبر خنقه في التراث فقط.
أطلق ابن المدينة العزيزة على الفؤاد والجسد "إيموزار الكندر" شرارة نقاش، من يمتنع عن تتبعه، يفوته قطار فهم الكثير من حاضر المغرب ومستقبله، يتجاهل من "يحكمون اليوم فعليا!"
ليلة الأحد ويوم أمس الاثنين، اخترت تتبع كل ما يمكن من ردود الفعل نحو ما أبدعه "peuse flow".
الخلاصة: يجب أن نقف قليلا ونتأمل بتجرد من الذات.. نعم، وهو كذلك.
الذين يستثمرون في مصائر الشعوب دون الحاجة لشن الحروب أو تنزيل أشكال الاستعمار السياسي والاقتصادي، واعون بقوة ما توفره وسائل التأثير الجديدة بكل تطوارتها المتسارعة.
وواعون أيضا أين يمكن قياس حجم التفاعل وتأثير به، دون تزييف من مكاتب الدراسات وهواة وهم صناعة الرأي. هذا الأخير، حقيقي حيث يسود صناعته وتصريفه افتراضيا، يتسلل إلى وعي ولاوعي الملايين من الشابات والشباب.
هناك، حيث السيادة للافتراضي على حساب زبد الواقع، تكتشف أن قاعدة هرم ساكنة المغرب تتحرك، هي قاعدة ليست جامدة كما يسوق لنا المتحكمون في تصريف أين تتجه بوصلتها.
هناك.. أجيال صاعدة بمواقف وقناعات واصطفافات تعبر عن وعي يتشكل بعيدا عن مهمة المؤسسات الكلاسيكية للدولة والمجتمع.
أجيال يُشعل شرارة تعبريها على أنها فاعلة في ذاتها ومحيطها، موسيقى كان هذا دورها عبر التاريخ ولا يزال، الفرق هو أنه يوجد من يتعلم من دروس الماضي لأجل الحاضر وصناعة المستقبل، وعندنا من يفرض تجاهله ويُطوع مصير بقاء الجميع رهائن داخل دوامة الإعادة التي تطرأ كل مرة بشكل كاريكاتوري.
للانصاف، كانت هناك محاولات لفهم هذه التطورات واستقطابها لتطل عبر التعبير الرسمي. لكن أعتقد أن الخطأ الذي يتكرر، هو دائما إعادة فرض الاحتواء عوض المواكبة.
أو كما عبر عن ذلك "peuse flow" في أحد مقاطعه الأخيرة بالقول: "الفن ما يحتاج أستاذ". وأجزم هنا أن حمولة المقطع في سياقه يحيل على "الأستاذية" بصيغتها الفجة.
كما لخص في نفس المقطع أن جر لون غنائي مثل "الراب" ليكون مجرد "شاو استعراضي" مشروع محكوم بالفشل، بل يدفع الكثير من مكوناته، نحو "التطرف" أكثر في تنزيل تأكيد الوفاء لرسالته التي خطها روادها بالولايات المتحدة الأمريكية.
نحن اليوم أمام درس جديد. معه يجب أن نتعلم أنه لا يمكن فصل تطور يطرأ على المجتمع.. كما لا يمكن مواصلة قبول سير أضلع المجتمع المغربي بكل فئاته بسرعات متفاوتة.
درس يؤكد أن فن "الراب" عندنا، يعيش منذ فترة طفرة حولته لمصنعٍ ينتج الرأي العام أكثر من أي شيء آخر، بعيدا عن الأضواء الكاشفة الزائفة.