في قلب النمو الزراعي الذي حققته المملكة خلال العقد الأخير، تبرز أزمة غير مرئية لكنها متفاقمة تهدد أحد أعمدة هذا التوسع: اليد العاملة الموسمية. وبينما تُسجّل المنتجات المغربية حضورا متزايدا في الأسواق العالمية، يجد الفاعلون الزراعيون أنفسهم في سباق مع الزمن لتأمين عمال يكفلون استمرارية سلاسل الإنتاج والتصدير. ومع تصاعد التحديات الاجتماعية والقانونية، بات نقص اليد العاملة ظاهرة مركّبة تتجاوز أبعادها التشغيل لتطرح أسئلة أعمق حول النموذج الزراعي برمته، واستدامته على المدى القريب والمتوسط.
أزمة تتجاوز أزمة المياه
وحسب تقرير نشرته المنصة الدولية المتخصصة في المجال الزراعي، مع تركيز خاص على قطاع الفواكه والخضروات الطازجة "Fresh Plaza"، يوم أمس الخميس، فرغم أن أزمة المياه لطالما كانت التحدي البيئي الأبرز في الأوساط الزراعية، فإن فاعلين كبارا في القطاع يؤكدون أن نقص العمالة الموسمية أصبح اليوم أكثر إلحاحا من أزمة الموارد المائية. الأعمال الزراعية اليدوية المرتبطة بمواعيد دقيقة؛ مثل التقليم والتخفيف والجني، باتت تواجه اضطرابا واسعا بسبب غياب أعداد كافية من العمال. هذا الخلل يؤدي إلى خسائر مباشرة في الجودة والحجم، ويؤثر على قدرة المزارعين على الالتزام بعقودهم التصديرية.
وفي هذا الصدد، يقول عثمان مشبال، المدير العام المنتدب بمجموعة "ضيعات زنيبر": "لقد أصبح نقص اليد العاملة مشكلة هيكلية تضرب كل مناطق المغرب، وتؤثر سلبا على ربحية مختلف القطاعات. نضطر إلى جلب العمال من مناطق تبعد 100 إلى 150 كيلومترا، بتكاليف عالية. الغيابات المتكررة تؤثر على عمليات دقيقة، وأرى أن النقص في اليد العاملة اليوم أكثر خطورة من ندرة المياه".
محاصيل استراتيجية مهددة بالانكماش
تشير بيانات جمعية مصدّري الفواكه والخضر (APEFEL) إلى أن المحاصيل التي تتطلب تدخلا يدويا مكثفا؛ كالفراولة والتوت والطماطم والفلفل والفواكه الحمضية، باتت الأكثر عرضة للخسائر. وقد انخفضت مساحة زراعة الفراولة، مثلا، من 3700 هكتار سنة 2022 إلى 2300 هكتار فقط سنة 2025.
وأكد أمين بنّاني، رئيس جمعية منتجي الفواكه الحمراء، أن أي تأخر بسيط في الجني خلال الفترات الحرجة يؤدي إلى نضج مفرط، وانتشار الآفات، وضياع كميات كبيرة من المحصول، مضيفا: "بات توفر اليد العاملة تهديدا مباشرا للقطاع، بعد تحدي المياه مباشرة".
تأثير السياسات الاجتماعية على استقرار العمل الزراعي
منذ اعتماد برنامج الدعم الاجتماعي المباشر، سنة 2021، بدأت تظهر آثار جانبية غير متوقعة على القطاع الزراعي. يرفض عدد متزايد من العمال التسجيل في صندوق الضمان الاجتماعي (CNSS) خوفا من فقدان حقهم في الدعم؛ ما يمنع المشغّلين من التقيّد بالمعايير القانونية وشهادات العمل الدولية.
وفي هذا الصدد، قال يونس الرزوقي، مدير الموارد البشرية بمحطة "كاباج سوس": "لم نعد قادرين على تشغيل عدد كبير من العمال؛ لأن تسجيلهم في "CNSS" يُفقدهم الدعم؛ وهو ما يعرّضنا نحن لمخاطر قانونية وتدقيقات في الشهادات الاجتماعية كـ"SMETA". لا خيار أمامنا سوى اللجوء إلى شركات المناولة المؤقتة، التي أصبحت تتحكم في سوق العمل وتوجه العمال لمن يدفع أكثر؛ ما يؤدي إلى اختلالات حادة في توزيع اليد العاملة بين المناطق والأنشطة الزراعية".
العبء المالي يتضاعف في الحقول ومحطات التلفيف
في ظل هذا الوضع، أشار تقرير "Fresh Plaza" إلى أن المنتجين يضطرون إلى جلب اليد العاملة من مسافات بعيدة؛ ما يرفع الكلفة التشغيلية ويقلص هامش الربح. محطات التعبئة والتجميد تعاني هي الأخرى؛ إذ يفقد المزارعون نصف طاقاتهم التصديرية في ذروة الموسم؛ لأن العمال المحليين يكونون مجندين في مواسم أخرى؛ كالتوت أو تجميد الفراولة.
وأشارت أسماء اللطاني، مديرة التسويق في شركة "BL Agri"، إلى أن "الأزمة باتت تمس الجميع، من الحقول إلى محطات التلفيف. موسم العمل يمتد من أكتوبر إلى يوليوز، وتبلغ الأزمة ذروتها بين نونبر ودجنبر، بالتزامن مع انطلاق مواسم الفواكه الحمراء؛ وهو ما يعمّق الأزمة في القطاعات الأخرى التي لا تجد من يحصد منتجاتها في الوقت المناسب".
معضلة الإيواء ونفور من العمل الشاق
ويرى المنتجون أن أحد الأسباب الرئيسية لفشل تعبئة اليد العاملة هو منع السلطات الزراعية إنشاء مساكن مؤقتة للعمال الموسميين، حتى في المناطق التي لا توجد فيها بدائل سكنية؛ حيث قال بناني: "العمال الذين ننجح في تشغيلهم يقطعون أربع ساعات يوميا ذهابا وإيابا. وهذا غير قابل للاستمرار. في لوكوس، نضطر إلى البحث عن اليد العاملة ضمن دائرة مئات الكيلومترات".
والمفارقة، كما يوضح التقرير نفسه، أن 12 ألف عامل من نفس المناطق يسافرون سنويا للعمل في حقول الفراولة بإسبانيا. ورغم أن الأجر في المغرب قد يصل في مواسم الذروة إلى ثلاثة أضعاف الحد الأدنى الوطني، إلا أن كثيرا من العمال يفضّلون العمل لساعات محدودة على حساب المردودية.
المهاجرون الأفارقة.. حل غير مؤطر قانونيا
وبحسب "Fresh Plaza"، فإن وجود نحو 17 ألف مهاجر من إفريقيا جنوب الصحراء في منطقة سوس ماسة لعب دورا مهما في التخفيف من حدّة الأزمة. لكن غياب أطر قانونية واضحة لتشغيلهم، وعدم وجود اتفاقيات منظمة مع دولهم الأصلية، يحدّ من الاستفادة من هذا المورد البشري.
وفي هذا السياق، قال أحد منتجي الطماطم في أكادير: "بدون هؤلاء المهاجرين، ستتوقف عشرات الشركات. لكن الأمر يتطلب تنظيما قانونيا، وظروف عيش وإدماج تحفظ الكرامة وتضمن الاستمرارية".
القطاعات الكبرى تزاحم الزراعة على العمال
ويرى المراقبون أن توسع المشاريع الكبرى في البنية التحتية، خاصة في ظل التحضير لتنظيم كأس العالم 2030، دفع قطاع البناء إلى استقطاب أعداد ضخمة من العمال؛ ما ضاعف الضغط على الزراعة.
من جهته، قال رايس إسرهني، مدير "APEFEL": "لم تعد المنافسة بين محاصيل أو جهات، بل بين قطاعات اقتصادية بكاملها؛ من بينها البناء والسيارات والخدمات".
أفول التنافسية الزراعية في السوق الأوروبية
ووفق اللطاني، فإن ما يجعل المنتجات المغربية تنافسية في الأسواق الأوروبية هو انخفاض تكاليف اليد العاملة، لكن الوضع الحالي يُجبر المنتجين على دفع أجور أعلى، والعمل بساعات إضافية، وتعبئة موارد إضافية في وقت قصير؛ ما يضغط على الفرق التشغيلية ويؤثر على الأرباح.
وأوضحت المتحدثة نفسها أن هذه الضغوط إذا استمرت ستؤدي إلى فقدان تنافسية المنتجات المغربية، لاسيما في أسواق مثل فرنسا وهولندا وإسبانيا؛ حيث المنافسة شديدة.
السباق ضد الانهيار
ولتجاوز هذا الانسداد، يطالب المنتجون، وفقا لما ذكره الرزوقي، بإعادة النظر في نظام الدعم الاجتماعي المباشر بما يسمح بفترة انتقالية تُتيح التصريح بالعمال الموسميين دون حرمانهم من الدعم. كما يدعون إلى الترخيص ببناء مساكن مؤقتة لائقة في المناطق الزراعية التي تفتقر إلى سكن دائم، بالإضافة إلى الإسراع بوضع إطار قانوني للهجرة الموسمية يسمح باستقدام عمال أجانب بشروط عادلة. تحسين ظروف النقل والسلامة، وتوفير دخل عادل على مدار العام، هي الأخرى ضرورات ملحة لإعادة جذب اليد العاملة المحلية.
وختم الرزوقي كلامه: "المساحات المزروعة تزداد باستمرار، لكن من سيحصد كل هذه المحاصيل؟ هذا هو السؤال الذي لم يعد يحتمل التأجيل".