دشنت الصين العهد الجديد من التعليم.. فتحت الطريق أمام العقول الصغيرة والناشئة لربح المعركة بشكل مبكر جداً. والأكيد أن كل دولة تحمل هم عدم انقراضها، خططت أو تخطط لنفس الاختيار المحتوم.
كيف؟
شهر أبريل الماضي، أعلن وزير التعليم، هوى جينبيغ، ببلاد المليار وقرابة النصف، نسمة، عن خطة إدماج مناهج تعليم الذكاء الاصطناعي في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية.
سوف يبدأ الأطفال، ابتداء من سن السادسة، في الاستفادة من 8 ساعات على الأقل، خلال هذه المرحلة، تخصص لتملك الأبجديات الأولى للذكاء الاصطناعي، أهمها، التواصل وحل المشكلات التي تواجههم، وأيضا تطويع استخدامه من خلال التفكير المستقل الذي ينتج الابتكار والإبداع.
خطة جهزت لها الصين ترسانة من المناهج التي ستدمج داخل المقررات والبرامج الدراسية ابتداء من العام المقبل، يرافقها تعزيز القدرات الأساسية لهيئات التدريس، كلها، بدون استثناء أو تمييز بين الشُعبِ والمسالك.
حين طالعت التجربة وبحثت فيها، وجدت أن تصريح وزير التعليم عندهم، لم يكن كما هو الحال عندنا. لم يكن نزوة انتخابية أو مطامع تجاه ملايير المخططات الاستعجالية ومشاريع الإنقاذ التي لم تنقذ شيئا، وسياسات الإصلاح، التي لا تُصلح سوى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمسؤولين عنها ببلادنا.
سبقت إعلان الخطة دراسة وطنية واحدة لا غير، طُرح خلالها سؤال: ما هي الأجيال الجديدة التي تحتاجها جمهورية الصين الشعبية لتستمر وتواصل الازدهار؟
وجاء الجواب بتنزيل الحاجيات بسرعة ودقة لأجل كل أبناء الصين، وليس المحظوظين منهم فقط، الذين يجد أولياء أمورهم ما يؤدون به إتاوة توفير تعليم عادل ذي جودة أساسه المساواة في الولوج إلى المعرفة.
خلال مرحلة دراستي الثانوية، السنة ثانية بكالوريا تحديدا، قال لنا أستاذ الفيزياء والكيمياء ذات صباح، وكان رجلا طيبا جدا، يفتح قاعة الدعم الدراسي (السوايع) مجانا لمن لا يستطيع أداء مقابلها، (قال): "راه كنقريوكم غير تاريخ العلوم البعيد... حاضرها ومستقبلها لا حنا لا أنتم نعرفه كما يجب!"
أستاذي الطيب والمجتهد، جمعتنا، بعد سنوات، مدرجات الدراسة الجامعية، لم نكن في نفس التخصص. نعم، عاد ليدرس بكلية العلوم الحسن الثاني بالمحمدية، كنت أنا بكلية القانون والاقتصاد، وكان يزورنا من حين إلى آخر ويجلس معنا، يبرر انتقاله إلى ضفة تخصصنا بأنه يرغب في الاستفادة أكثر.
لم أسقط ما قاله لنا حين كنت تلميذا عنده. تذكرت كلماته ونحن ننتظر معا حافلة الخط 800 التي كانت تقلنا من أمام الكلية نحو حي البرنوصي بالدار البيضاء، ثم سألته: "واش رجعت للكلية من أجل استدراك حاضر ومستقبل العلوم؟"
سألته وأنا أتطلع لوجهه الذي تمتزج ملامحه مع السماء، كان فارع الطول... مد يده نحو كتفي، أمسك به، ابتسم بعدما عدل نظاراته فوق أنفه، أتذكر كل تفاصيل المشهد، ثم أجاب وهو يبلع ريقه من على جنبات شفتيه، كانت هذه الحركة فيه عادة دائمة: "رجعت لأستدرك حاضر وضعي الاجتماعي وأضمن مستقبل عائلتي".
جواب لخص به أستاذ الفيزياء والكيمياء واقع التعليم بالمغرب المستمر في الزمان والمكان.
من المستحيل أن يكون الجميع مهندسي معلوميات ونوابغ في الذكاء الاصطناعي ولا مبتكرين رقميين. لكن من الجيد ضمان البيئة التعليمية المفروضة ليستفيد الجميع من فرصة أن يكون البعض منهم كذلك.
خلال الأشهر الأخيرة، يواجه المغرب تحديات حماية أمنه السيبراني، ولا أحد طرح بعد الهزات التي وقعت السؤال الحقيقي: هل نملك الموارد البشرية والمعرفية لمواجهة معارك وحروب لم تعد تدخل ضمن دائرة المستقبل؟
تحديات وجودية أصبحت، اليوم، قدرا محتوما نصطدم به، ثم نواجهه بأضعف الإيمان، سياسة التغيير بالقلب لا غير، أو التجاهل بإخفاء الأضرار ما أمكن رغم قسواتها.
في الصين التي بدأنا بها المدخل لتبسيط كارثة نقترفها، يجهزون لمائة عام مقبلة، بربح ما تحتاجه السنوات الجارية والقريبة. يسلحون أجيال اليوم والغد وما بعد بعده، بما تربح به الدولة والشعب.
في المغرب نواصل اقتراف ما نخسر به الحاضر والمستقبل.
قد يدفع من استحلوا الوهم رغم كل رجات الواقع، بما يتم تسويقه من مشاريع ومخططات وبرامج تخبرنا بأننا نتقدم في مجالات التكنولوجيا والمعلوميات والذكاء الاصطناعي وكل ما يدور في فلك القطاع الرقمي.
يدفعون باستضافة المملكة لكبريات التظاهرات الرقمية في إفريقيا والعالم.
لكنهم يتجاهلون أننا في كل هذا نشبه "التريتور" الذي يعيش حياة عزوبية أبدية، تنتهي مهمته مع بزوغ فجر ليلة العرس ليبدأ التحضير لأخرى.
ما الحل إذن؟
هناك مدخل واحد قبل كل شيء وأي شيء. وهو أن نعترف بأن المغرب، باستثناء فلتات تستثمر في ذاتها ولأجلها، لا يستثمر من موقع الدولة والمؤسسات في المستقبل إطلاقا، كل ما يصرفه يوجهه للحجر وبعض الاكسيسوارات التي تزينه، مع استثناءات قليلة جدا، تهم قطاعات ترتبط بالإنتاج والتدبير أكثر من الابتكار.
ثم نتساءل، ما فائدة تشييد بنيات رقمية تحمل صفة الوطنية، إن كان الولوج إليها وتدبيرها وصيانتها وحمايتها... تحتاج دائما إلى صفقات وعقول أجنبية.
يجب أن نصيح جميعا، إن لم يكن هناك استدراك، بحقيقة أن أجيال اليوم تخسر معارك الحاضر والمستقبل. وإن لم نعجل بالاستدراك، لنغلق المدارس أفضل، لأنها تتحول عاما بعد آخر، لما يشبه متاحف التعليم عوض تملُكِ المعرفة المتجددة.
أنقذوها لأن أبناءنا يخسرون منذ سنوات الحاضر ويتجهون نحو الهزيمة في المستقبل.