لم يكن التحول في موقف مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، قائد شرطة سابق لجبهة البوليساريو، تجاه النزاع في ملف الصحراء المغربية مجرد لحظة عابرة، بل نتيجة مسار تفكير طويل بدأ بزياته للمغرب سنة 2010، وانتهى بقناعة راسخة بأن مبادرة الحكم الذاتي هي الحل الواقعي الممكن.
وفي هذا السياق، قال ولد سيدي مولود، في حوار له مع مجموعة "تيلكيل" أجراه كل من أحمد مدياني وياسين مجدي، "بدا لي ذلك في عام 2010، عندما زرت المغرب.. في المخيمات نعيش كأننا في جزيرة معزولة. تماما كما يقدّس الهندي البقرة لأنه نشأ في بيئة تقدّسها دون تساؤل، نحن كذلك نشأنا على تصوّر أن المغرب نقطة سوداء، لا نسمع عنه إلا الأخبار السيئة: انتهاكات حقوق الإنسان، ومحاولات إبادة الصحراويين، وغيرها من الصور القاتمة".
الرحلة التي قام بها ولد سيدي مولود من الحدود إلى مدينة السمارة كانت الشرارة الأولى، التي أزاحت من ذهنه مجموعة من التصورات المسبقة، يقول عنها "عندما دخلت إلى المغرب، بجواز سفر موريتاني في زيارة، كنت متوقعا أن أُعتقل في أي لحظة، لأن هذه هي الصورة النمطية التي رُسّخت في ذهني. قطعت حوالي 1200 إلى 1300 كيلومتر، من الحدود إلى مدينة السمارة، دون أن يسألني أحد. وعندما وصلت ورأيت الناس في السمارة والعيون، وجدتهم متعايشين، والصورة التي زُرعت في ذهني لم تكن موجودة".
ويضيف قائلا "النقطة الأولى التي لفتت انتباهي أن الناس هناك يعيشون معا بشكل طبيعي، والمشكلة التي تُروّج لها البوليساريو بشأن الأقاليم الجنوبية غير موجودة. وجدت والدي وإخوتي يعيشون حياة طبيعية، دون استثناء، بل ربما بتمييز إيجابي لصالح الصحراويين".
أما النقطة الثانية والمتعلقة بالجانب الاستراتيجي، فيقول عنها "إنها تتعلق بسؤال: ما هو المغرب بدون الصحراء؟ هل يمكن أن تنفصل الصحراء عنه؟ استراتيجيا، لا. إذا حدث ذلك، سيتحول المغرب إلى جزيرة، خاصة إذا أصبحت الصحراء تابعة للجزائر. سيكون محاصرا: البحر من الأمام، والعدو من الخلف".
ليصل قائد الشرطة السابق لجبهة البوليساريو إلى قناعة حاسمة يلخصها عبر قوله "هذه المعطيات أوضحت لي أمرين: أن التعايش ممكن، وأن إقامة دولة صحراوية غير ممكن".
وبعد اطلاعه على مضامين المبادرة المغربية للحكم الذاتي، تساءل: "ما الفرق بين ما تنص عليه المبادرة المغربية، والوضع الحالي داخل المخيمات في الجزائر؟ لا فرق. المخيمات كيان داخل دولة جزائرية. الدولة تحتفظ بالسيادة في السياسة الخارجية والدفاع والأمن، وهذا هو جوهر المبادرة المغربية. إذن، نحن نعيش منذ خمسين عاما في حكم ذاتي، لكن تحت سيادة الجزائر".
ويوضح أن اقتناعه لم يكن سطحيا، بل نابعا من فهم عميق للبنية القبلية المنغلقة التي توظفها البوليساريو للسيطرة على العقول، إذ قال "لفهم ذلك، لا بد من العودة إلى الخلفية الثقافية. نحن مجتمع بدوي، كنا نعيش في قرى صغيرة مثل العيون والسمارة والداخلة. أغلب السكان كانوا في البادية. مجتمع البادية مجتمع قبلي منغلق، كل قبيلة تعيش بمعزل عن الأخرى، على عكس سكان المدن. هذه الخلفية تخلق تصورات تجعل من الآخر دائما غريبا".
ويتابع موضحا طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تحكم المخيمات "حتى داخل الفضاء الصحراوي، من لا ينتمي لقبيلتك يُعد غريبا، حتى وإن تشارك معك الثقافة. وهذا ما يفسر طبيعة الانغلاق داخل المخيمات".
ثم ينتقل لتحليل موقع البوليساريو داخل هذه البنية، قائلا "نحن انتقلنا من مخيمات الصحراء إلى مخيمات الجزائر، لكن العقلية بقيت نفسها. الناس ما زالوا يرون في القبيلة ملاذا وحاميا، وليس البوليساريو. لم يشعر الناس يوما أن البوليساريو هي من تحميهم. هناك تضخيم كبير لها، في حين أنها مجرد عنوان بلا مضمون، ولا تمثّل أيديولوجيا يمينية ولا يسارية، بل تفتقر لأي لون سياسي".
ثم أضاف "هي فقط اسمها "حركة تحرير" بدون مضمون فعلي. أغلب من يعيشون في المخيمات لا يؤمنون بالبوليساريو ككيان سياسي، بل فقط كوسيلة لتحقيق شيء واحد: "كنت أعيش في زمور، وأريد أن أعود وأعيش فيه وحدي كما كنت". هذا هو الحافز، وليس الإيمان بفكر تحرري أو مشروع سياسي متكامل".
وفي تعليقه على كيفية بناء القناعات داخل المخيمات، يفضح ولد سيدي مولود أسلوب البوليساريو في تطويع العقول منذ الطفولة، عبر خطاب أحادي يقصي أي رأي مخالف، عبر قوله "البوليساريو توهم الناس بأن الاستقلال ممكن، بل حتمي. حتى الأمس القريب، كان سفير البوليساريو في الجزائر يعلن أن الاستقلال آتٍ لا محالة، ولا يتحدث إلا عن ذلك. نحن في بيئة بدوية تؤمن بأن الكبير لا يكذب، وشيخ القبيلة لا يُشكّك في كلامه. هذه الثقة العمياء تجري فينا منذ الصغر، ولذلك ما يُلقَّن للناس داخل المخيمات يصبح يقينا راسخا. البوليساريو تكرّر على مسامعهم منذ الطفولة أن الحكم الذاتي خيانة، وأن الاستقلال هو الحل، فلا تتاح لأي فكرة أخرى فرصة للظهور".