اشتهر جميل راتب عالميا بفيلم "لورانس العرب"، وعربيا بأفلام عديدة ما تزال راسخة في ذهن المشاهد العربي. ورغم أنه خرج من بوتقة المسرح الفرنسي بعدما بزغ نجمه هناك، إلا أن نجم الفنان المصري سيسطع بين أقرانه بمصر بأدوار رسمت تاريخ مصر وتقلباتها، منذ الخمسينات، قبل أن يهزمه المرض في نهاية مشواره الفني، ويسلم الروح لبارئها اليوم 19 شتنبر.
مصري بين الفرنسيين
ولد الفنان المصري جميل راتب بالقاهرة، سنة 1926، من عائلة أرستقراطية، لأب مصري وأم مصرية، بخلاف ما يشاع عليه أنه من أم فرنسية. غادر القاهرة إلى فرنسا في أربعينيات القرن الماضي لدراسة العلوم السياسية. لكن ومع شغفه المبكر بالتمثيل، كان أول ظهور سينمائي له في عام 1958، من خلال فيلم "أنا الشرق"، الذي وقف فيه إلى جانب ملكة الجمال ونجمة السينما الفرنسية كلود جودار.
يتذكر جميل راتب في أحد حواراته هذه المرحلة: "كان لديّ منحة اعتمدت عليها في معيشتي، ولكنها توقفت، والتحقت بمدرسة التمثيل، وبدأت أعمل مع فرقٍ مسرحية بسيطة في مسارح صغيرة، وكنت أشارك في أدوار رئيسية". فكتبت عنه الصحف الفرنسية آنذاك عن أدواره المسرحية البارزة، وعن مشاركته في بعض الأفلام الفرنسية.
بعد توقف منحته الدراسية، سيتخلى جميل راتب عن التمثيل وسيشتغل في عدة مهن، منها "كومبارس، وفي سوق الخضار، ونادل في مقهى، ومترجم.. كما شارك في ثورة 1968 الشهيرة بفرنسا"، كما يحكى هو عن نفسه.
بين السينما العالمية والمصرية
عاد إلى وطنه، لكنه لم يخسر طموحه بأن يكمل مسيرة التمثيل، ففي سنة 1962 ستكون مشاركته في فيلم "لورانس العرب"، إلى جانب بيتر أوتول وعمر الشريف نقلة نوعية في مساره. ويتذكر راتب هذا الفيلم العالمي، قائلا: "فى البداية رشُحت لدور عمر الشريف، ثم تم اختياري فى دور آخر، ومشاركتي فى هذا العمل كانت فرصة كبيرة لي بأن يكون اسمي موجوداً فى أسرة الفيلم. وهذا فتح لي أبواباً كبيرة فى السينما وقتها، وكان الفنان العالمي الراحل أنتونى كوين من أقرب أصدقائى على مستوى الممثلين العالميين".
في السبعينات، التقى راتب بالشاعر صلاح جاهين وربط معه صداقات، مكّنته من الالتقاء بأهم المخرجين الذين عرضوا عليه أدوارا في التلفزيون والسينما، لتشكل هاته المرحلة انطلاقة أخرى، وسط الساحة المصرية والعربية.
شارك جميل راتب في بطولة عدد كبير من الأفلام المصرية: منها "لا عزاء للسيدات" في سنة 1979 مع فاتن حمامة، و"حب في الزنزانة" مع عادل إمام وسعاد حسني. كما اشتهر بدوره في فيلم "البريء" مع أحمد زكي، سنة 1986.
وفي إطار الأفلام التي عالجت الصراع المصري الإسرائيلي، مثّـل جميل راتب في فيلم "الصعود إلى الهاوية"، الذي يحكي عن قصة حقيقية في عالم الجاسوسية، إلى جانب أحمد زكي ومديحة كامل. وبهذا الفيلم حصل جميل راتب على عدة جوائز، منحته "شهادة ميلاد جماهيرية"، كما يذكر نقاد السينما.
وإلى جانب وقوفه أمام نخبة من الممثلين البارزين، كفاتن حمامة وعمر الشريف وأحمد مظهر، وفريد شوقي.. شارك جميل راتب في أفلام ظلت راسخة في السينما المصرية، على رأسها "طيور الظلام" في سنة 1995 إلى جانب الزعيم عادل إمام. كما شارك في عدة أفلام فرنسية وتونسية، بالإضافة إلى أعمال درامية تلفزيونية، منها "يوميات ونيس" مع محمد صبحي، و"الراية البيضا"، "زيزينيا".. فضلا عن دوره الشهير بشخصية الشيطان في مسلسل الكعبة المشرفة سنة 1981.
لحظات التكريم
حضي الفنان الراحل بعدة تكريمات، عن مسيرته الطويلة في صناعة السينما والدراما العربية؛ كان آخرها تكريم من منظمة اليونيسكو. وعن هذا الحدث والجوائز التي نالها، يتذكر جميل راتب في حواره مع صحيفة "الوطن" المصرية، قبل أيام من وفاته: "هذا الأمر أسعدنى كثيراً، بالإضافة إلى حصولي على 3 أوسمة من فرنسا، ووسامين من تونس. كما كان لتكريمي من الرئيس السادات مذاق خاص. وكُرمت أيضاً في دبى عام 2011، فكل ذلك أسعدنى للغاية، فضلاً عن تكريمى بمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، وتكريمي بمهرجان قرطاج، وكانت المفاجأة أن يكرمنى رئيس الدولة".
لكن ورغم حصوله في سنوات عطائه على عدة جوائز بمهرجانات عربية، يتحسر الفنان في ذات الحوار، قائلا: "كنت أنتظر تكريماً من بلدي مصر على غرار تكريمي بالخارج مثل فرنسا وتونس".
فيلم مغربي.. ختامه مسك
في آخر حياته، توارى الفنان في السنوات الأخيرة عن الأنظار، بسبب تقدمه في السن وتدهور حالته الصحية، لكنه قبل ذلك، شارك في آخر مشواره الفني، في فيلم مغربي من إنتاج مشترك بين فرنسا والمجر، في سنة 2016.
وحكي الراحل قبل أشهر من وفاته عن هذه التجربة: "لم يعرض علىّ أعمال أخرى بسبب تقدم سني.. ولكن شاركت فى فيلم مغربي يدعى "أمس" في سنة 2016 فى مدينة الدار البيضاء، وهو من بطولة فنان مجري، وإنتاجه فرنسي ألماني مجري".
وعن دوره في الفيلم يضيف راتب: "جسدت من خلاله دور ضيف شرف كطبيب يعالج البطل ويقدم له حلولاً ويقف بجانبه ويدعمه، والدور لم أكن أجسده على الكرسى المتحرك، ولكننى أتذكر مشهداً كنت أسير فيه على قدمى وأرى خيالى فى النافذة. ومن المقرر أن يطرح الفيلم فى دور العرض الأوروبية والمغربية خلال أيام".
في بيته رحل
في السنتين الأخيرتين، وبعد تدهور حالته الصحية، كان الراحل ينتقل بين مستشفيات فرنسا والقاهرة. وضعف على إثرها سمعه وبصره بشكل تدريجي، كما فقد القدرة على الحركة، مما اضطره للمكوث في بيته واستعمال كرسي متحرك.
وعن رحلات ذهابه وإيابه لمستشفيات فرنسا، قال في الحوار المذكور آنفا: "الأطباء لم يستطيعوا فعل شىء نظراً لكبر سني، رغم أنهم حاولوا تقديم حلول، لكن قبلت وضعي كما هو وفضلت العودة إلى مصر مرة أخرى، لأنني أريد أن أعيش وأموت على أرضها".
وكانت وصيته الأخيرة: "أريد أن يكون هناك عزاء بعد وفاتي يحضره من يحبنى من الفنانين وكبار النجوم، بالإضافة إلى تجميع كل صوري والجوائز التي حصلت عليها طوال حياتي بمعرض خاص، حتى يظل اسمي عالقاً بذهن الجمهور".