عن سن يناهز 99 سنة، رحل أول أمس، كريم العمراني، أحد الأسماء التي ارتبطت بعهد الحسن الثاني. فقد كان أحد الرجالات الأوفياء للملك الراحل، ونسج المغاربة حوله الكثير من القصص خصوصا حول ثروته الضخمة، وكيف كانت الدولة تلجأ إليه لفك أزماتها !؟ "تيل كيل تعود هنا إلى مسار هذا الرجل العصامي والليبرالي الذي دخل إلى دواليب الدولة المغربية، وهذه مفارقة عجيبة، على يد الاشتراكيين.
كان يلقب بـ"صاحب السيكار". عين وزيرا أول أكثر من مرة في عهد الحسن الثاني، وكان مديرا عاما للمكتب الشريف للفوسفاط لأزيد من عقدين. واسمه (كريم العمراني) يوحي بالثراء والسلطة والكتمان. يعتبر أحد كبار رجالات الدولة المغربية وأول تكنوقراطيي المملكة الشريفة. وقد ترك العمراني، الذي توفي الخميس الماضي عن سن يناهز 99 سنة، خلفه مؤسسات اقتصادية مزدهرة.
كان البعض يعتبره الرجل القوي للنظام، بينما كان يرى فيه البعض الآخر مجرد واجهة تبعث على الاطمئنان، ولكن الأكيد أن العمراني كان بالخصوص وزير المراحل المفصلية، إذ كان الحسن الثاني يستقدمه كلما كان عهده في أزمة. ففي غشت 1971، وبينما كان المغرب مازال يرتعد عقب المحاولة الانقلابية بالصخيرات، قبل كريم العمراني مهمته الجديدة كوزير أول برزانة وثقة في النفس. ويتذكر أحد وزراء ذلك العهد قائلا "لم يكن أحد يرغب في تحمل هذه المسؤولية. كانت الطبقة السياسة برمتها متوترة، غارقة في الخوف الذي أثارته المحاولة الانقلابية الفاشلة".
من بوجلود إلى مكتب الفوسفاط
لم يولد كريم العمراني وفي فمه ملعقة من ذهب، بل ترعرع في دروب المدينة العتيقة لفاس دون أبيه، ولم ينفعه سوى عمه الميسور الذي فتح له محلا في زقاق من أزقة حي بولجود. كان الفتى كريم يبيع فيه أجهزة الراديو بعد الخروج من الإعدادية، مفضلا التجارة على الدراسة. ولكن جملة من الأحداث ستحدد المسار الذي سيسلكه هذا الشاب، وسيفضي به إلى واجهة السياسة بالمغرب.
في فجر الاستقلال، كان العمراني رجلا مزدهرا في الدار البيضاء. فهذا العصامي أخذ يختلط بالفرنسيين منذ سنوات، وعقد معهم الصفقات وراكم الثروات، ووضع الأسس الأولى للرأسمال المغربي الخاص، وجنى، ربما دون أن يدرك ذلك، الثمار الأولى لمغرب ما بعد الاحتلال.
ويقول محمد لحبابي، أحد قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان يخالط كريم العمراني في صغره، إنه كان عضوا في ديوان عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان يشغل منصب وزير الاقتصاد الوطني في حكومة مبارك البكاي، و"كانت إحدى مهامنا الأولى تتجلى في استرجاع المكتب الشريف للفوسفاط.. وطلب مني بوعبيد إن كنت أعرف شبابا مغاربة سبق لهم أن خالطوا أوساط الأعمال الفرنسية.. وتوا فكرت في كريم العمراني".
استقبل رجل الأعمال الشاب، الذي كان مقر نشاطه بزنقة ماجلان بالدار البيضاء، لحبابي وقبل الانتقال إلى الرباط وتقلد مهام الكاتب العام للمكتب والإشراف على الشؤون الإدارية. ويتابع لحبابي أنه "بعد شهر، عاد وطلب مقابلتي وقال لي إنهم طلبوا منه التكلف بملف شاوش يشكو من مشاكل في الحصول على تقاعده، والنظر في مشكلة مؤذن بالرباط، وسألني إن كان هذا هو المكتب الشريف للفوسفاط". أخبر لحبابي بوعبيد بالأمر، فما كان من هذا الأخير إلا أن منحه كل الصلاحيات وتم وضع كل ملفات المكتب بين يديه الأمر الذي تسبب في استقالة جاك أندري بوندون، آخر مدير عام فرنسي لهذه المؤسسة. ولكن كان على العمراني الانتظار إلى غاية 1967 ليصبح رسميا المدير العام للـOCP، والاشتغال مع مهندس يدعى أبراهام السرفاتي، الذي جاء به أيضا محمد لحبابي نفسه.
تدبير عصري
هو معروف بكونه مديرا جيدا.. بكونه رجل التوافقات" يقول حسن أوريد. فالنسبة إلى هذا السياسي، الذي التقى العمراني عدة مرات وتابع عن كثب مساره، تميز الرجل "بنقله للنمط المتبع في القطاع الخاص إلى القطاع العام، واستحدث بذلك أسلوبا جديدا في التدبير". وأضاف أنه "في المكتب الشريف للفوسفاط كما في الحكومة، كان دوما بارعا في اقتناص رجال النخبة، وكان يعرف كيف يحيط نفسه بالعناصر اللامعة والمواهب الشابة". وتابع الناطق الرسمي الأسبق باسم القصر أن "العمراني واحد من الأشخاص الذين ساهموا في خلق الرأسمالية المغربية وفقا لقواعد الاقتصاد العصري(...) وكان يعتقد، إسوة بالكثيرن، أن سبيل التحديث يمر عبر التصنيع"(...)
ثقة الحسن الثاني
وظف العمراني نفس المزايا التي جعلته ينجح في الأعمال وفي الـOCP، لما تلقد مهام الوزارة الأولى، أي إحاطة نفسه بالعناصر الجيدة، وتحميل المسؤولية للعاملين معه.(...) وقد أفلح بالخصوص في كسب أذن الملك الراحل. ويقول أوريد "كان الرجل الوحيد الذي لم يكن يناديه الحسن الثاني بـ'سي كريم' بل بـ'كريم' فقط". ولما تم تعيينه وزيرا أول للمرة الأولى في بداية السبعينيات، كان العمراني يحتل الكرسي الاستراتيجي لمدير المكتب الشريف للفوسفاط، الذي سيحتفظ به إلى غاية 1990. وقد راكم المنصبين دون أن يصدم ذلك أي أحد من المتتبعين.
"في تلك الفترة كان منصب المدير العام للـOCP أكثر أهمية من الوزارة الأولى" يوضح مصدر اشتغل معه قبل أن يضيف "لم يكن يهتم كثيرا بالسياسة والحسن الثاني كان يعرف هذا الأمر. فالعمراني كان ثريا ولم يكن يسعى إلى السلطة. ولهذا كان الملك يترك له هامشا واسعا للتحرك. كان يدرك أنه وفي وفعال". وللتأكيد على الثقة التي كان يضعها الملك الراحل في وزيره الأول، يكشف مصدر قريب من القصر أنه "بعد المحاولة الانقلابية الثانية، كان الحسن الثاني يخشى على حياته، فشكل مجلسا للوصاية، مكلف برعاية ولي العهد إن حدث له هو أي مكروه، وكان يتكون من علماء وكبار الشخصيات من بينها العمراني".
وبما أنه كان أملس سياسيا وفعالا، ثريا ومؤثرا، فإن العمراني كان بالنسبة إلى الحسن الثاني عكازا اقتصادايا وواجهة سياسية. "كان منفذا لأوامر الحسن الثاني، ولم يكن يخفي هذا الأمر. لم يكن رجل الأزمات، هذه المهمة كانت متروكة للبصري"، يقول لحبابي.
لم يكن العمراني وزيرا أول فقط، بل كان كذلك وزير للمالية في الظل بالنسبة للحسن الثاني. إذ في 1976، وبعد بضعة أشهر على المسيرة الخضراء واتفاقات مدريد، بعثه الملك الراحل، الذي كان قلقا من تداعيات الحرب مع البوليساريو، إلى واشنطن للقاء هنري كيسنجر. "وبعد أسبوعين، أخبر كيسنجر الكونغرس أنه سيتم تزويد المغرب بـ24 طائرة من طراز 'نورثورب' مقابل 120 مليون دولار، فضلا عن عربات مصفحة قيمتها 36 مليون دولار" يقول عز الدين العياشي، الخبير بالشؤون اللإفريقية والشرق أوسطية.
في انتظار التناوب
بعد بضع سنوات، استدعاه الحسن الثاني مرة أخرى لقيادة الحكومة. في 30 نونبر 1983، أصبح هذا الليبرالي المعروف بقدرته على تليين الزوايا، وزيرا أول مسؤولا عن برنامج التقويم الهيكلي، الذي تفاوض بشأنه مع المؤسسات المالية الدولية وتكلف بتنفيذه. كانت مهمته تتجلى في استعادة توزان المالية العمومية، تقليص النفقات وتوسيع المداخيل. ويتذكر مساعدوه في تلك المرحلة ما سموه "سطوته الطبيعية" و"تصرفه كمقاول"، و"تكامله مع الحسن الثاني". كان الملك سياسيا ويميل إلى التباهي، بينما كان العمراني رجل اللوجيستيك ويجنح إلى الكتمان(...)
وسيجد العمراني نفسه للمرة الثالثة على رأس الحكومة في 1992. إذ كلفه الحسن الثاني بالإشراف على دفة الجهاز التنفيذي في انتظار التناوب ووصول قادة الكتلة الديمقراطية إلى السلطة. هذه المرة لم يتم تغيير وزراء "السيادة"، وظل عبد اللطيف الفيلالي محتفظا بحقيبة الشؤون الخارجية، ومحمد برادة بالمالية، وإدريس البصري بالداخلية. "لم يكن العمراني سوى واجهة، تم وضعه في مقدمة المشهد لتحسين الصورة، بينما كان البصري يلعب دور نائب الملك" يقول لحبابي.
ولكن في حكومته التكنوقراطية هذه، أدخل إدريس جطو وكلفه بوزارة التجارة. وسيتولى بعد عشر سنوات من هذا التاريخ الوزارة الأولى خلفا للاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي.
في منتصف ولايته الثالثة، أي في 1993، سيتم افتتاح مسجد الحسن الثاني، الذي كان العمراني أكبر المساهمين في بنائه بـ20 مليون درهم، متقدما على مولاي علي الكتاني (19 مليون درهم)، بل والحسن الثاني نفسه (6 ملايين درهم). كما سيساهم في ترميم المدينة العتيقة لفاس، مسقط رأسه، فضلا عن عدة أوراش أخرى عمومية وخاصة.
ترك الرجل منصبه في 1994، وعوضه عبد اللطيف الفيلالي. وعاد للاهتمام بتطوير اعماله التجارية التي تكلفت بها ابنته سعيدة، وهي تعد من بين أوائل "نساء الأعمال" في البلاد. عاد الرجل إلى الظل والصمت رافضا البتة الحديث إلى الصحافة، ليأخذ معه كثير من الأسرار إلى قبره بعد حياة مديدة انطفأت شمعتها الخميس الماضي.
بتصرف عن مجلة "تيل كيل"