في كتابهما المشترك الجديد، "المعارضون بالمغرب الكبير منذ الاستقلال"، تقوم الباحثة المغربية المتخصصة في العلوم السياسية خديجة محسن فنان، والمؤرخ الفرنسي بيير فيرموران بتشريح الفعل الاحتجاجي في هذه المنطقة طيلة نصف قرن، ويمنحان الكلمة للمعارضين لفهم ديناميتهم. "تيل كيل" التقتهما وحاورتهما بشأن هذه المؤلف الجديد وبشأن حال المعارضين المغاربيين اليوم
ما هي خصوصية المعارضين المغاربيين؟
حاولنا في هذا الكتاب التأكيد على أنه منذ الاستقلال، قال نساء ورجال "لا" للسلطات الاستبدادية. رأينا فيهم "معارضين"(منشقين) لهم خصائص مشتركة مع "المنشقين" السوفيات والصينيين الذين رفضوا الانتماء والإيمان باللعبة االسياسية الممأسسة هناك.
إسوة بهؤلاء، واجه المعارضون المغاربيون المنع من التعبير بحرية، ومن النشر ومن النقاش العمومي. بل عانوا كذلك من الإهانات، وحملات التشهير، والرقابة، هذا إن لم يتعرضوا للتهديد بالطرد من عملهم ومساكنهم. إذ تم توظيف كل الوسائل لإسكات هذه "الرؤوس الصلبة"، وبالتالي إرغامهم على الانتظام في الصفوف الطيعة.
ولكن هناك اختلاف مهم بين منشقي الإمبراطورية السوفياتية أو الصينية ومعارضي المغرب الكبير. في النظام السوفياتي الشمولي، جرى القضاء على بنيات المعارضة، بينما تركت الأنظمة الاستبدادية بالمغرب الكبير فضاءات لممارسة بعض الحريات (...)
عانوا كذلك من الإهانات، وحملات التشهير، والرقابة، هذا إن لم يتعرضوا للتهديد بالطرد من عملهم ومساكنهم
كيف صمد الفاعلون في هذه المعارضة أمام السلط الاستبدادية؟
لقد عارضوا أنظمة لم تكن استبدادية ولا شمولية بشكل كامل، بل كانت تقوم على استبداد نافص، وكانت تشكو من ثغرات في طرق مراقبتها للذين يخرجون عن الصف. من جهة أخرى، إن لم يستفد المعارضون المغاربيون من مساعدة السلطات الغربية، فإنهم استطاعوا مع ذلك نسج صداقات وضمنوا التضامن معهم ببلدانهم. وكان هذا حال القوميين والاشتراكيين والإسلاميين.
كانت العديد من عناصر الدياسبورا المغاربية تساعد المعارضين. ففي 2011 مثلا، وإبان الثورة التونسية، وزعت الدياسبورا التونسية صورة محمد البوعزيزي وهو يضرم النار في نفسه. ونجحت في جمع من كانوا يتوصلون بها حول قضية كانت في طور التشكل. كانت هذه أشكال جديدة للمعارضة والتضامن في طور التشكل وراء الحدود.
وهناك عوامل أخرى تفسر لماذا استمرت المعارضة في الوجود. وفي مقدمتها أن السلطة لم تسع إلى التخلص نهائيا من الوجوه السياسية للمعارضة، لأن الأمل كان دائما يحدوها لإدماج هؤلاء في التوافق السياسي الذي تتحدث عنه.
هناك عوامل أخرى تفسر لماذا استمرت المعارضة في الوجود. وفي مقدمتها أن السلطة لم تسع إلى التخلص نهائيا من الوجوه السياسية للمعارضة، لأن الأمل كان دائما يحدوها لإدماج هؤلاء في التوافق السياسي
نلاحظ دورتين متوازيتين، من جهة، الاستبداد يتجدد بشكل دائم، ومن جهة أخرى، المعارضون يتأقلمون، ويظهرون بوجوه جديدة. كيف يمكن تفسير هذا الأمر؟
خلال العقود التي تلت مرحلة الاستقلال، لم يجر التخلي عن الاستبداد، بل تم تغيير شكله فقط. منذ عقد الثمانينيات، وبالخصوص خلال التسعينيات، أعطت السلطات في المنطقة مؤشرات على التغيير. فقد رغبت البلدان الغربية في ربط مساعداتها بالتنمية؛ والاستثمارات والعلاقات التجارية باحترام الحريات. كما أن المجتمعات المغاربية صارت أكثرا تعليما، وتعيش في الحواضر بشكل أكبر، وأصبحت منغمسة أكثر في العولمة بفضل الوسائل الجديدة للإعلام والاتصال. هذه كلها تحولات لم تتجاهلها السلطة القائمة التي عمدت إلى نهج سياسة الانفتاح التي كانت في صالح الأحزاب الإسلامية.
المعارضون من جهتهم تأقلموا مع هذه الانفتاحات، بشكل خادع ومزيف في بعض الأحيان، وصاروا يتحدثون لغة حقوق الإنسان. في المغرب مثلا، ومنذ منتصف سنوات الألفين، صار لمطالب الصحراويين طابع الاحتجاجات المواطنة، حتى وإن كان يلوحون بشبح تقرير المصير. إذ أخذوا يمتحون من سجل مرجعي جديد.. سجل حقوق الإنسان، والحريات الفردية والسياسية. ورغم الطابع الاجتماعي والاقتصادي لاحتجاجاتهم فإن الطابع السياسي لاحتجاجاتهم ظل محايثا(...)
كيف هو حال المعارضين المغاربيين اليوم؟ هل مازالت جذوة المعارضة متقدة في دواخلهم؟
بما أننا التقينا بضعة عشرات منهم من كل الأجيال، وبما أننا تناقشنا معهم طويلا، فقد اندهشنا من كون شغفهم بالسياسة، بالمعنى العام، لم يطرأ عليه أي تغيير. فهم لم ينسوا أي شيء، ويبدو أن الأحداث السياسية الجارية أججت حماسهم، سواء تعلق الأمر بالربيع العربي داخل كل بلد أو بالأحداث الدولية، والعربية بالخصوص.
فيما يخص الشباب منهم - بعضهم منفيون أو لاجئون أو هاربون، أو يواجهون السلطة القضائية، أو مهددون من طرف أجهزة الشرطة السياسية، بل حتى بعض الجماعات الأخرى، ويتعرضون للتهديد بشكل متواصل (مع أقاربهم) –فالقلق واضح ودائم. ولكنه قلق سياسي اكثر منه نفسي، لأن الانخراط في معارضة نظام استبدادي يفترض صلابة ذهنية لا مثيل لها (...) فمثل هؤلاء الأشخاص نادرا ما ينهزمون، ولهذا تعرض المعارضون الأكثر خطورة على السلطة، أو الذين يعتبرون كذلك، للاغتيال في بعض الأحيان.
تشرحان في كتابكما أن المنفي بفرنسا يشكل عذابا بالنسبة إلى المعارضين السياسيين. فهم محرومون من التعبير عن آرائهم السياسية في بلد الاستقبال، وبعض المعارضين ينزلقون إلى الفقر والهشاشة. هل يمكن لكما أن تتوسعا أكثر في هذا التوافق الضمني بين فرنسا والمغرب؟
كلمة "عذاب" فيها مبالغة، لأن العذابات الحقيقية لا تحدث في فرنسا، باستثناء بعض الاغتيالات التي تعرضت لها بعض الشخصيات الكبيرة. بالمقابل، صحيح أن فرنسا، لما تستقبل المنفيين، لا تترك لهم إمكانية مواصلة نشاطاتهم السياسية. فاللاجئ السياسي لا يمكنه مواصلة معركته، حتى وإن كانت هناك بعض الاستثناءات حين يكون هذا الأمر في صالح البلد المضيف.
بخصوص المغرب الكبير، رأينا كيف ظل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب على قيد الحياة بفرنسا بعد أن تم حظره في المغرب، كما أن الأمازيغ الجزائريين واصلوا تحركاتهم في فرنسا بعد أن تم حظر نشاطهم في الجزائر. من جهة أخرى، حصل الأجانب، في عهد فرانسوا ميتران، على حق إنشاء الجمعيات السياسية.
وعلى كل حال، ففرسنا لا ترغب في خلق التوتر في علاقاتها مع أنظمة حليفة من أجل شخصيات توصف بالثورية. ومن هذا المنطلق، فالمغرب لم يحظ بمعاملة مختلفة عن الجزائر او تونس، لأن لفرنسا مبادلات كثيرة ومختلفة مع جيرانها بالجنوب.
وبالتالي فلا يحصل هؤلاء المنفيين على أي هدية فينزلقون بسهولة إلى الفقر، ما عدا إن تمكنوا من الحصول على عمل يقتاتون منه(...)
لماذا يوظف الصحراويون سجل حقوق الإنسان اليوم لتمرير مطالبهم؟
على الأرجح لأن حقوق الإنسان صارت قيمة عليا تدافع عنها بعض المنظمات الدولية وبعض الدول القوية، كما كان حال تصفية الاستعمار في الستينيات. هذا الموضوع الأخير صار اليوم جزءا من التاريخ. بالمقابل تحتل حقوق الإنسان صدارة الأحداث، وهذه اللغة صارت لغة الدول المغاربية. لم يكن هذا هو الوضع في الثمانينيات، والحال أن معارضي تلك الفترة هم الذين أفلحوا في فرض هذه القضية على الدول(...)
أشرتما إلى قصة "لوجورنال" و"تيل كيل" والانتقال الديمقراطي. هل مازال هذا الاحتجاج على صفحات وسائل الإعلام قائما؟
عاشت الصحافة المغربية أوجها خلال فترة الانتقال الديمقراطي قبل أن تصبح ضحية جانبية للحرب على الإرهاب: فقد انتهت فترة انفتاح النظام السياسي ولاذ السياسيون بالحرب على الإرهاب. ولم يعد هناك أثر تقريبا للاحتجاجات بوسائل الإعلام اليوم، في تونس والمغرب.
وانطلاقا من سنوات الألفين، دخلنا عهدا جديدا مع بروز ثم هيمنة الشبكات الاجتماعية التي انفجرت حقا خلال الربيع العربي. وصارت هذه الشبكات الوسيط الإعلامي الأكثر هيمنة في كل من تونس والمغرب.
وجدت صحف المعارضة على الإنترنيت صعوبة في البقاء على قيد الحياة، لأنها ليست مربحة وتتعرض لحرب شرسة، بينما فرضت الشبكات الاجتماعية نفسها كوسيلة إعلام جماعية يلتقي فيها كل المعارضين الذين صاروا محتجين جددا يحظون بمتابعة واسعة.
والملاحظ اليوم أن الاحتجاجات تجمع مناطق فقيرة ومهمشة برمتها، كما رأينا في 2011، ثم في أحداث الريف
حاوره عبد السلام قادري
ترجمة بتصرف عن "تيل كيل"