في هذه الحلقة من سلسلة محامي وقضية، سنتوقف مع محمد الغلوسي، المحامي بهيئة مراكش ليحدثنا عن جزء من مساره، وعن القضية التي لازالت راسخة بذاكرته.
أنا من مواليد فاتح يناير 1973 في منطقة فلاحية نواحي مدينة دمنات.
في تلك المنطقة ذات التضاريس الجميلة والطبيعة الخلابة، ترعرعت، ودرست المرحلة الابتدائية في مدرسة تبعد عن منزلنا بخمس كيلومترات، حيث كان علي أن أقطعها يوميا أربع مرات في اليوم ذهابا وإيابا مشيا على الأقدام.
كانت ظروف المنطقة تزداد قساوة بفعل تساقط الثلوج خلال فصل الشتاء، لكننا كنا نواجها بصبر ومقاومة قل نظيرها.
حينما حصلت على الشهادة الابتدائية، انتقلت إلى مدينة دمنات لإتمام تعليمي، لكن معاناة التنقل ظلت ترافقني، فإعدادية الإمام علي التي التحقت بها كانت بدورها تبعد عن مكان إقامتي بمنزل خالي بخمس كيلومترات.
لم يدم مكوثي بمنزل خالي إلا سنة واحدة، ثم اكتريت غرفة مع بعض الأصدقاء وسط المدينة، حيث واجهنا مصاعب ومصاريف الحياة بشكل جماعي.
كنا نعتمد على أنفسنا في الطهي، وغسل الأواني و الملابس، ولم نكن نزور عائلاتنا إلا في العطل، وأحيانا في نهاية الأسبوع.
واجهنا كل الصعوبات والمحن، خاصة أن أسرتي كانت متواضعة جدا، ولم تكن ميسورة الحال، مما كان يضطرني للعمل خلال العطلة الصيفية من أجل توفير مصاريف الدراسة.
لم نكن نعرف شيئا اسمه المخيم أو البحر، بل كنا نعمل خلال العطلة من أجل سد حاجياتنا من مصاريف وتكاليف الحياة الدراسية.
هذه الظروف، رغم قساوتها إلا أنها ساعدتني على تكوين شخصيتي، وقد ساعدني على ذلك أيضا حبي للمطالعة وقراءة الكتب.
حبي للمطالعة سيترسخ أكثر في مرحلة الثانوية، إذ بدأت أقرأ كتب عدد من المفكرين أمثال عابد الجابري وعبد الله العروي وحسين مروة والطيب التزيني، وروايات حنة مينة وعبد الرحمان منيف، رغم أنني كنت أجد صعوبة في فهم بعض مضامين كتب هؤلاء المفكرين والفلاسفة.
وأذكر أن شغف القراءة والمطالعة دفعني لمطالبة مدير الثانوية بالسماح لنا بإنشاء خزانة خاصة بالتلاميذ إلى جانب خزانة المؤسسة، التي اعتبرت أنها لا تتوفر على كتب ذات مستوى فكري وعلمي كبير، وهو ما تمت الموافقة عليه، حيث تبرع لنا عدد من الأساتذة بكتب قيمة، أصبحنا نتناوب على قراءتها، وتلخيصها، وتقديم عروض حولها.
خلال المرحلة الثانوية بدأ وعيي السياسي والحقوقي يتشكل، وكانت حرب العراق مناسبة لكي أقود التلاميذ في عدد من المظاهرات وايقاف الدراسة، إلا أن ذلك لم يكن يعني عدم اهتمامي بدراستي، إذ كنت أجمع بين النضال والاجتهاد وهو ما كان يثير إعجاب مسؤولي المؤسسة.
قيادة الاحتجاجات داخل الثانوية ستتسبب لي في عدد من المشاكل، حيث تم عرضي على المجلس التأديبي، وتقرر توقيفي عن الدراسة، إلا أن احتجاجات التلاميذ أرغمت المؤسسة على التنازل عن قرارها.
بعد حصولي على شهادة البكالوريا، كنت قد انخرطت في حزب الطليعة، وقد كان المسار بالنسبة لي واضحا ومحددا، حيث لم أكن أرى في نفسي سوى محاميا، فالمحامي يولد محاميا.
من أجل تحقيق أمنيتي، التحقت بكلية الحقوق بمراكش، وهناك كنت على موعد مرة أخرى مع النضالات الطلابية، إذ كنت منخرطا في فصيل الطلبة الطليعيين.
كانت النضالات والنقاشات الطلابية مدرسة أخرى للتكوين وصقل الشخصية، إذ أن النقاشات والحلقات الطلابية كانت تستمر لساعات طويلة، وأحيانا ليوم كامل في مواضيع مختلفة.
حصلت على الإجازة سنة 1999، وقد تزامنت سنتي الأخيرة في سلك الإجازة مع وفاة والدي رحمه مما كان له أثر على نفسيتي لم يفارقني لحد الآن، ومما زاد من إحياء هذا الجرح أنني فقدت الوالدة سنة 2014.
بعد الحصول على الإجازة، اجتزت امتحان أهلية المحاماة بنجاح، وأصبحت محاميا متمرنا ابتداء من سنة 2003، قبل أن أصبح محاميا رسميا سنة 2006.
طيلة مساري مرت أمامي العديد من القضايا، لكنني لا أنسى واحدة من هذه القضايا، التي رافعت فيها إلى جانب زملاء آخرين.
هذه القضية تعود تفاصيلها إلى سنة 2013، وتحديدا بمدينة ورزازات، حيث تم اعتقال عدد من مناضلي نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل على خلفية احتجاجات واحتقان اجتماعي شهدته المدينة.
انتقلت أنا والنقيب عبد الرحمان بنعمرو والنقيب أحمد الحلماوي من هيئة بني ملال، والمحامي علي عمار من هيئة الرباط للدفاع عنهم، وقد كانوا متابعين في حالة اعتقال من أجل تنظيم مظاهرة غير مصرح بها، والعصيان، وإهانة موظفين عموميين والاعتداء عليهم.
كان الاحتقان الاجتماعي قد وصل ذروته في ورزازات باعتقال عدد من أعضاء الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وتسريح عدد من عمال الفنادق، الذين لم يحصل عدد منهم على تعويضات الطرد التعسفي رغم صدور أحكام قضائية نهائية لصالحهم.
لم يكن من السهل تبرئة المعتقلين، إذ أن النيابة العامة ظلت تصورهم كمخربين.
استمرت المحاكمة لمدة ثلاثة أيام متواصلة، وبعد مرافعات مطولة، قضت المحكمة بتغريمهم 4 آلاف درهم فقط، وتم اطلاق سراحهم، بعدما كانوا متابعين في حالة اعتقال بتهم ثقيلة.
إن مساري في المحاماة أبان لي عن مدى عشقي وحبي لهذه المهنة، فهي رسالة نبيلة قبل أن تكون مصدرا للدخل والرزق.
هي رسالة نبيلة للدفاع عن الحقوق والحريات ومناصرة المظلومين، كما أنها تقاليد وأعراف وأخلاق والتزام قبل أن تكون مصدرا للعيش، فالمحامي الذي لا يتوفر على أخلاق لا يستحق أن يكون محاميا، و شرف ارتداء البدلة السوداء.
إن ما نلاحظه من حين لآخر من سلوكات دخيلة على مهنة المحاماة تسيء إليها، حيث أصبحنا نسمع عن ملاسنات بين المحامين داخل الجلسات، وكذا بعض الظواهر المشينة من قبيل السمسرة، وهو ما لا يمكنه فصله عن استشراء الفساد في منظومة العدالة بأكملها مما يستدعي وقفة حقيقية من قبل جميع المتدخلين في هذه المنظومة، لأن الهدف في النهاية هو أن يشعر المواطن بالطمأنينة في محراب العدالة، وأن يعلم أن حقوقه لن تهدر.