أصدر محمد الصديق معنينو، الإعلامي البارز، الكتاب السادس من سلسلة كتبه "أيام زمان". يحكي، في هذه الكتب، عن مسار طويل اقترب فيه من الملك الحسن الثاني كثيرا، وتابع، عن قرب، كيف تبلورت قضايا كبرى. وتابع ذلك المسار وهو مدير للإعلام ثم كاتبا عاما لوزارة الاتصال، حتى أحيل على التقاعد. في هذا الحوار، يحكي معنينو عن بعض الأحداث الكبرى التي واكبها، وبعض الأشخاص الذين احتك بهم في دوائر القرار وعلى أعلى مستوى...
قلت في الجزء السادس من سلسلتك "أيام زمان" إنه الجزء الأخير، لكنك كشفت أنك مازلت تتوفر على رصيد من الصور والوثائق. ألا تراودك الكتابة لإتمام ما بدأت؟
أنا أقول في هذا الكتاب إنني حاولت أن أقدم الوثائق التي اعتبرتها الأهم في ما أتوفر عليه من وثائق. ولكن، بعد أن انتهيت من هذه الأجزاء الستة، وجدت لدي المئات من الوثائق التي تستحق أيضا النشر. فأنا في موقع فيه الكثير من الحرج. هل سأبقى مستمرا في هذه المذكرات بدون نهاية، لأنه يلزمني كتابان أو ثلاثة لإتمام ما بدأت؟ أو أحتفظ بها أو أسلمها لمؤسسة "أرشيف المغرب"؟
المهم أنني طرحت السؤال، وليس لدي الآن الجواب النهائي عليه.
حكيت كثيرا من القصص وربما سكتت عن أشياء أخرى. ما الذي امتنعت عن قوله ومارست الرقابة الذاتية عليه؟
فكرة الرقابة هذه، والسؤال عنها يأتي في كل مناسبة. الرقابة على ماذا؟ أنا، كصحافي، مثلك أنت صحافي، حضرت في بعض الوقائع، وتلك الوقائع كنت أنقلها لتلفزيون المغرب. كانت هناك أشياء يمكن نقلها في ذلك الوقت. وهناك أشياء أراها ولا يمكن نقلها، وهناك أشياء أخرى كان ممنوعا علي نقلها نهائيا، حتى ولو رأيتها. فما نقلته رآه الناس، وأنا هنا حاولت أن أحكي القصص التي فيها جزء من الجرأة وجزء من الطرافة لكواليس تلك الأحداث. مثلا، أحكي عن خطب الحسن الثاني. الناس كانوا يشاهدون خطب الحسن الثاني، وخاصة خطاب عيد العرش. وماذا يعني خطاب عيد العرش؟ هو أنه يُكتب للملك خطاب يستعرض فيه منجزات سنة كاملة. يقول أنجزنا في التعليم كذا من المدارس، وأعددنا طرقا، وفي السدود كذا وكذا... يشاهد الناس الخطاب وينتهي ويقولون جلس الملك وخطب. أما أنا، فأقدم الكواليس، وأقول، مثلا، إن الملك كان يتحدث حوالي 20 دقيقة، ضمن خطاب قد يستمر لساعة أو ساعة وربع، ثم يقول "قف". ويتم التوقف، لينهض الملك، الذي كان يدخن كثيرا، فيدخن سيجارة ويشرب قهوة، ويتحدث مع مساعديه من وزراء ومستشارين، ثم يعود ويقول "يا الله آسيدي باسم الله، واجدين؟ واجدين؟ يا الله"، ثم يعود ليقول "شعبي العزيز...". لم يكن الناس يشعرون بهذا. في مثل هذا الخطاب، أحكي، مثلا، أنه في إحدى المرات وهو يلقي خطابه، سكت وبدأ يتطلع إلى أعلى ويشير بأصبعه. ونحن واقفون لم نفهم شيئا. أوقفنا الكاميرات، ثم سألَنا "هل تسمعون؟". فعمّ الصمت، أكثر من الصمت الذي كان يخيم على القاعة، وأصاخ الجميع السمع، وفعلا سمعنا كأن طائرة تحوم فوق القصر. فقال لنا الملك "سمعتم فعلا الطائرة؟ حينما كان والدي محمد الخامس، رحمه الله، يريد إلقاء خطاب عبر الإذاعة، كان الفرنسيون يبعثون له طائرة تظل تحوم فوق القصر، ليفهموه دائما أنهم في الأعلى، وأنهم يراقبونه، ويحذرونه من أن يقول كلمة غير لائقة بالنسبة إليهم". وأعطى الأمر للجنرال أو الكولونيل الذي كان هناك، وقال له "في المرة المقبلة، عندما أود إلقاء خطاب، 'الله يخلّيكم'، أبعدوا عني الطائرات لنصف ساعة حتى أكمل خطابي وتعود". مثل هذه الأشياء لا يعرفها الناس، وهكذا حكيت حوالي عشر نوادر، وهذه واحدة منها. إذن، أنا حاولت أن أحكي. هل كان يمكن أن أقول في ذلك الوقت، في التلفزيون، حينما كان سيدنا يسجل، توقف وتحدث لنا عن الطائرة؟ لا، لا يمكنني ذلك، لكن يمكنني ذلك الآن، وأنا قلت ذلك.
الحسن الثاني.. حضور قوي
وأنت تروي ذكرياتك، يبدو حضور الحسن الثاني وازنا. كيف فرض نفسه عليك بهذه القوة؟
هذا سؤال ذكي جدا، لماذا فرض الحسن الثاني نفسه في السنوات الخمس الأخيرة؟ لأنه شعر، أولا، بأنه رجل مريض، وأن مرضه ليس مرضا عاديا، وأن نهايته ربما قريبة، وأن من واجبه، كملك، أن يترك نوعا من الاستمرارية في الملك. ولأنه كان يعرف تاريخ المغرب معرفة قوية جدا ويعرف أن عددا من الاضطرابات تقع عندما يمرض الملك في آخر حياته، أو يتوفى دون أن يعيّن من يخلفه. في حالات عديدة من تاريخ المغرب، يعين من يخلفه ولكن يتم تغييره. ثم إنه اتخذ قرارات، في السنوات الأخيرة، أعاد فيها التوازن إلى المسرح السياسي المغربي، مثلا جاء بدستور جديد، وبانتخابات حتى الأحزاب التي كانت تندد بنتائجها السابقة أو تصفها بأنها مزورة كلها قبلت نتائجها، واعتبرتها نتائج تعكس التوازن الموجود في المجتمع. ولأول مرة، حزب اسمه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يأتي أولا في الانتخابات، ولأول مرة ينادي الملك على رئيس حزب معارض ويخبره بأنه سيكون وزيرا أولا، وهذا السيد الذي نادى عليه ليس شخصا يلقي فقط الخطب، ولكنه كان رجلا مناضلا مكافحا وكان ضد النظام وكان يسعى إلى إسقاط النظام. إذن، هذه التحولات كلها، في الخمس سنوات الأخيرة، لم يكن ممكنا أن أتطرق إليها دون أن أتحدث عن الحسن الثاني.
كتبت عن وقائع عن الحسن الثاني جرت أمام ناظريك، لكنك استعملت، في قصص أخرى، صيغة "قيل". هل يليق هذا بالكتابة عن ملك؟
هناك أحداث وقعت لم أكن موجودا فيها، ولكن كان لديها حضور، إما في السياسة، وإما في المجتمع وإما في وسط المغرب كله، وما كان يمكنني أن أحكي عنها بقوة كما أحكي عن وقائع عاينتها، ولكن، لم يكن بإمكاني أن أقفز عليها. فأقول "قيل" و"قيل" و"قيل"، لأقدم وجهات النظر التي كانت موجودة في ذلك الوقت. مثلا، أنا لم أكن حاضرا، حينما كان الحسن الثاني يعدّ لتعيين وزيره الأول في حكومة التناوب. من كان حاضرا معه؟ ربما كان حاضرا معه مستشار أو مستشاران، ولكنني أقول "قيل في ذلك الوقت بأن فلان هو المرشح نظرا لكذا وكذا، وقيل بعد ذلك، بأن فلان هو الذي تم ترشيحه لأنه رجل اقتصاد وكذا وكذا"، إذن، قدمت ما كان يروج لدى الصحافيين وفي المجتمع السياسي وفي دوائر المسؤولية من أخبار، انتهت باختيار شخص، من الأشخاص الخمسة، الذين كانت أسماؤهم متداولة. هل كان علي أن أسكت وأقول "عيّن فلانا"، لا، كان علي أن أقدم المناخ الذي كان موجودا.
التحذير الملكي
ما هو أقوى موقف وقع لك مع الملك الراحل؟
صعب أن أقول لك ما هي أصعب لحظة، لأنني حضرت في عدد من المواقف وكنت شاهدا عليها، أو كنت جزءا من "الميكانيك" الذي كان حولها، ولكن يمكن أن أحكي لك، مثلا، عن الملك عندما ذهب إلى الداخلة. فالملك، في بداية الثمانينات، ذهب إلى الداخلة، وأقام فيها حفل الولاء، الذي نسميه "حفل البيعة"، وكانت مفاجأة لأن إعدادها كان سريا. وعندما صعد الناس إلى الطائرة، قيل لهم بأنها تتجه إلى مراكش، وبأن الملك اختار الطائرة من أجل الراحة وتفادي الطريق. ثم قيل لهم إننا نتجه إلى الداخلة، فيقومون ويقولون "اللهم صل عليك آرسول الله" والنساء يزغردن "والدنيا مقلوبة". المهم، وصلنا، ووصل الناس وأعدوا لهم خياما. أنا أسرع كثيرا من أجل أن أصل إلى الجواب عن سؤالك. وكان الملك الحسن الثاني لديه حس التواصل، فوقف في "الفيلا"، وهي "فيلا" العامل التي تم إصلاحها قليلا وجُعلت مقر إقامة الملك ليتناول غذائه ويرتاح فيها قليلا. خرج الملك إلى الخارج، وأنا لا زلت أذكره وهو واقف في الخارج، ونادى على وزير الإعلام الذي كان في ذلك الوقت هو عبد الواحد بلقزيز. وكنا نتابع ذلك لأننا كنا قريبين جدا، لم نكن بعيدين عنه إلا بأقل من 100 متر أو 70 مترا أو شيئا من هذا القبيل. تحدث معه ولم نكن ندري ماذا قال له، ثم فجأة جاء أحد "المخازنية" يعدو وقال لي "تكلّم لسيدنا". "واو"! وقد كنت مرتديا قبعة وأحمل على ظهري حقيبة، لأننا لم نكن ندري هل سنبقى يوما أو يومين أو ثلاثة، وهل سننام هناك أم لا. المهم، تدربنا في المسيرة الخضراء على تلك الأجواء. قصدته وانحنيت على يده وقبلتها، وسكتت، لأنه من الآداب مع الملوك أنه إذا نادى عليك تقف وتصمت. ولن تقول له "علاش عيطتي لي آ السّي...؟!". وقفت وسكتت، وقال لي "السّي معنينو، كم لديك من الكاميرات هنا؟". انظر إلى السؤال كيف سيجعلني تحت التجربة. قلت له "نعم آسيدي، هناك ثلاث كاميرات". فسألني "ألوان أم...؟".، فأجبت بأن فيها الألوان والأبيض والأسود. وسألني "وفين غادين تنزّلوهم؟". قلت له بأن واحدة سنضعها على محل بقالة، والتقنيون هناك لترتيب الأمور... ثم سألني عن توقيت مرور الربورطاج، وهذا هو السؤال الفخ. متى سيمر الربورطاج؟ ونحن بعيدون عن الرباط بمسافة 1200 كيلومتر وليس لدينا الإمكانيات لندخل إلى الرباط. هو سيأخذ الطائرة للدخول إلى مراكش ومن معه سيأخذون الطائرات للعودة إلى طنجة ووجدة، ونحن كيف سندبر الأمور؟ فقلت له "نعم آسيدي، عندما سنصور كل هذا، سنجمعه، وسنبحث عن أحد سيسافر في إحدى الطائرات التي ستحط في مراكش، وسنعطيه العمل". تصور سنقدم نشاط الحسن الثاني إلى أحدهم ليحمله ويقدمه إلى سائق، سيبحث عنه عندما سيصل إلى المطار. وذلك السائق سيأخذ السيارة ويتجه إلى الرباط، عبر طريق بداية الثمانينات، حيث لم يكن هناك لا طريق سيار ولا "هم يحزنون". وحينما سيصل، يجب أن يتم التحميض أولا عبر الآلات، ثم يمر عبر المونطاج... نظر الملك إلى ساعته، وقال لي "سأخرج على الساعة الخامسة، والحفل سيدوم لـ20 دقيقة، إذن في الخامسة والثلث ستكون جاهزا؟"، فأجبت بالإيجاب، فنادى على الجنرال محمد القباج الذي كان يقود القوات الجوية، وسأله "أين تلك الطائرة كذا وكذا؟"، فقال له إنها موجودة وجاهزة فقال له "اعطها لمعنينو غادي يمشي فيها". وسأله عن مدة رحلتها، فقدرها بين ساعتين وساعتين وربع. وعاد إلى ساعته وسألني عن الوقت الذي يتطلبه إعداد العمل أولا، ففهمت أنه سيتشدد معي في الزمن، فبدأت أمطط في الأمور، وقلت إن ذلك يتطلب ساعة وربع، فاستغرب لطول تلك المدة، فبررتها بضرورة العبور عبر الآلات وغير ذلك. وسألني عن مدة المونطاج، وأجبت بأنه يتطلب ساعة وربع فوصلنا في الحساب إلى حوالي الحادية عشر إلا 5 دقائق تقريبا. فقال لي "إذن في الحادية عشرة ستكون جاهزا؟"، فأكدت له ذلك. فقالي لي "في الحادية عشرة. فأنا أستضيف الناس في العشاء بمراكش، وهو عشاء عائلي، ولا يجب أن أتركهم ينتظرونني حتى الواحدة ليلا. إذن، في الحادية عشرة سنكون جالسين نشاهد التلفزيون". فقلت له "الله يبارك فعمر سيدي". وهذا ما سيبقى في ناظري لصعوبته. فعندما عدت إلى الخلف، أدار وجهه وقال لي "Attention! الحداش دالليل!". إشارته بأصبعه وتأكيده "الحداش دالليل!"، زعزعتني لمدة سنوات وأنا كلما رأيته أتذكره وهو يقول لي "Attention! الحداش دالليل!". يعني "رد بالك". عندما يفعل ذلك الحسن الثاني بأصبعه تشعر بشعور خاص وتحتفظ به في ذاكرتك...
والتزمت بما وعدت به؟
نعم، الطائرة التي مكنني منها طائرة صغيرة كان اقتناؤها قد تم للتو، حيث كنت أول من امتطاها. بحيث، حينما صعدت، وأنا أذكر ذلك، بدأنا أنا والربان ننزع البلاستيك عن مقاعدها الكبيرة، حتى أجلس وأتمكن من وضع حزام السلامة. ووصلت و"جاب الله التيسير"، وفي الحادية عشرة تم تمرير الربورطاج....
كتب عبد الرحمان عاشور مذكراته، وكذلك فعل محمد بن ددوش، واختلفا حول بعض التفاصيل. ألم يثر أحدهم انتباهك إلى بعض الوقائع من داخل دار البريهي؟
كلما كان أحد يكتب مذكراته، أنا مستعد لمساعدته، إذا احتاج وثائق أو صورا أتوفر عليها وإذا أراد أن أحكي له وهو يكتب ويعد صاحب كل ذلك، ليس لدي مشكل. فنحن نحتاج إلى المذكرات يا أخي في المغرب. وتنقصنا المراجع، فالصحافيون لا يكتبون، والبرلمانيون لا يكتبون، والوزراء لا يكتبون، والسياسيون لا يكتبون. فأنا لست مستعدا لانتقاد من تجرأ واستجمع شجاعته لإخراج كتاب. بالعكس، السي بنددوش قام بمجهود كبير وتحدث عن فترة كبيرة، والرجل قضى تقريبا خمسين عاما وهو في الإذاعة. والسي عاشور قام بتجربة، صحيح أنه جاء ضمن أطر وزارة الداخلية الذين استقدمهم (إدريس) البصري للإذاعة، ولكنني، في كتابي، أقول بأنه لم يكن مثل الآخرين. فقد كان يحاور الناس ويجالسهم ويسهر معهم واستطاع أن يكون صداقات ساعدته على اكتساب ثقتهم وتسيير الأمور جيدا في الإذاعة وهذا شيء جميل جدا.
للبصري تلفزيونه.. وللملك تلفزيونه!
بعد هذه الرحلة الطويلة، لماذا، في نظرك، لم يتم إصلاح الإذاعة والتلفزة المغربية؟
الحسن الثاني حاول أن يصلح التلفزيون، ولم يكن يروق له ذلك التلفزيون، واسمح لي أن أقول إنه من سوء حظ الناس الذين كانوا يعملون في التلفزيون أنه كلما أشعل التلفزيون يوما "تيطيح فشي مصيبة دايزة ماشي هي هاديك وتيطير لو وتينوّض الصداع". فأي وزير إعلام كان يخشى أن يشاهد الملك التلفزيون. والتلفزيون لم يكن يتوفر على وسائل، ولكن كانوا فيه رجال. اسمح لي أن أقول لك إن تلفزيون السبعينات والثمانينات كان متحركا. وقد كانت الأخبار أخبارا، بالرغم من الرقابة، حيث كانت فيه ديناميكية.
الملك أراد أن يصلحه من ناحية الشكل ومن ناحية الجوهر وأعطى هذه المهمة لمهندس فرنسي (أندري باكار) كان يشرف على بناء وإصلاح القصور الملكية وقال له "سير لهاداك التلفزيون وصلحو لي" وأعطاه، كما نقول، بطاقة بيضاء. وبما أنه مهندس بناء، فقد أزال غرف الطابق الأول وقسم ذلك، وجاء بألوان جميلة ومكاتب استقدمها من فرنسا و"شوالي" لم نكن نحلم بها. فنحن كنا نتوفر على 4 "شوالي" ونحن 6 محررين، الأربعة الأولون يجدون على ما يجلسون عليه والآخران لا يجدان إلى ذلك سبيلا. ويقال إن الذين كانوا يعملون في التلفزيون كانوا "غارقين" في الإمكانيات. لا، لم تكن هناك إمكانيات وباكار جاء بإمكانيات وجاء بأشخاص، بينهم أكفاء استطاعوا التقدم إلى الأمام، وبينهم آخرون غابوا بسرعة. هذا الإصلاح دام لشهرين أو ثلاثة، وكما يقول المثل "وعادت حليمة إلى عادتها القديمة"، فاستاء الملك من هذا الوضع وقرر خلق تلفزيون آخر. "خلّي هاداك التلفزيون القديم، الله، سبحانه وتعالى، ما بغاهش ينوض، خلّيه گالس. آرا ندير أنا تلفزيون جديد". ولهذا خلق القناة الثانية "دوزيم" وأعطاها للقطاع الخاص وطلب منهم إعداد دراسة الجدوى المالية، مستبعدا أن تمنحهم الدولة من المال العام وطالبهم بالبحث عن طرق الحصول على المال. لهذا أعدوا أدوات فك التشفير "الديكودورات" في البداية، ولكن وقع عدد من عمليات الغش في تلك "الديكودورات"، وفشلت الأمور وانتهت "دوزيم" بالمرور إلى القطاع العام. ولكن القناة الثانية لعبت دورا كبيرا. فقد كانت لديها برامج تقلق الحكومة وتسير في اتجاه معارض لسياسة الحكومة. وأنا أذكر أن إدريس البصري كان قلقا من القناة الثانية التي كانت تمرر بعض البرامج، فتصله تقارير من الأقاليم، تقول له "اللهم إن هذا منكر"، "وغادين ينوضو علينا الناس" و"الناس غادين يهبطو للزنقة يديرو مظاهرات"، ولكن الملك كان يمنعه. فقد كان يقول له "ممنوع عليك الاتصال بدوزيم" ومن كان يرأس القناة الثانية؟ هو السّي (فؤاد) الفيلالي الذي كان صهر الملك. لهذا في أحد الأيام، لم يعد البصري يحتمل، فذهب إلى الملك، فقال له "نعم آسيدي. هاد الشي راه بزّاف. هاد الناس راه غادي يديرو لينا الفوضى فالبلاد"، فأجابه الحسن الثاني "شوف آ ادريس. انت عندك القناة الأولى دير فيها اللي بغيتي، وأنا عندي القناة الثانية ندير فيها اللي بغيت"، بمعنى أنه أضاف حاجزا جديدا ليقوله له "ممنوع عليك التدخل". ولعبت القناة الثانية، بفضل شبانها وشاباتها، أحد الأدوار المهمة في الانفتاح. تصور أن الناس كانوا ممنوعين من المرور في القناة الأولى، فتمنحهم القناة الثانية ساعة كاملة. يعنني أننا كنا نسير على رجلين مختلفتين. هذه هي المحاولات التي قام بها للإصلاح بصفة عامة بالنسبة للتلفزة المغربية.
كنت كاتبا عاما لوزارة الاتصال. ماذا تغير في مهامك من خلال ذلك الموقع؟
أنا عندما اشتغلت في وزارة الإعلام، اشتغلت 8 سنوات وأنا مدير للإعلام؛ بمعنى أنني على اتصال يومي بالصحافة، سواء صحافة وطنية أو صحافة معتمدة. وفي هذه المهمة، كنت أشرف على تنظيم رحلات للخارج عندما يسافر الملك إلى الخارج أو الوزير الأول، ورحلات إلى أقاليم الصحراء، ورحلات بمناسبات وطنية. إذن، كانت لدي إمكانيات لدعوة ما أمكن من الصحافيين. وفي الحقيقة، لم يبدأ هذا العمل، حتى جاء البصري، لأن ميزانية وزارة الإعلام كان فيها حوالي 60 مليون في العام، لدعوة الصحافيين الأجانب، إذن لم تكن لدينا إمكانيات، لكن لما جاء البصري فتح الباب وطلب مني استدعاء الصحافيين على ألا أهتم بالمال. طلب منا فقط أن نتصل بشركة للحصول على تذاكر الطائرات وبفندق لإيواء الصحافيين، كما مكننا من السيارات لنقلهم. وبذلك ما علينا إلا الاتصال بالصحافيين لدعوتهم والفواتير تبعث إلى وزارة الداخلية. بقيت هكذا في هذا الوسط، إلى أن تم تعييني كاتبا عاما، لأنه كان لا بد من ترقيتي، لأنني قضيت 8 سنوات وأنا مدير، وأنوب عن مجموعة من الكتاب العامين عند مغادرتهم لمناصبهم أو تعيينهم في مناصب أخرى. وقد نبت خمس مرات عن الكاتب العام للوزارة. وفي الأخير، أظن أنهم عرضوا ثلاثة أسماء على الملك الحسن الثاني، الذي قال لهم "هذا قضى سنوات في الإعلام، عيّنوه كاتبا عاما". وهكذا سلمني الظهير، وأنا أذكر أنه كان في المشور، في "بوصدار" الساحة الكبرى، وليس داخل القاعة، حيث عين مجموعة من المسؤولين. وعندما وصلت عنده وانحنيت على يده، أخذ الظهير ووضعه في يدي وقال لي "السّي معنينو، مبارك ومسعود، تستحق أكثر". هذه من الجمل التي بقيت أيضا راسخة في ذاكرتي عن الحسن الثاني. وأنا عندما أتحدث عنه، فأنا أتحدث عن شخص تتبعت أنشطته، سواء عندما يكون في حالة غضب، أو في عندما يكون في حالة فرح. وقد كنت أراه من بعيد، وأشعر إن كان متشنجا أو يستعد ليقول شيئا صعبا، أو في حالة استرخاء، ولكن ليس معنى هذا أنني كنت قريبا منه، فقد كنت أراه مرة أو مرتين في العام في مناسبات محدودة جدا.
ألم يزعجك، خلال كل تلك السنوات، أن تكون بوقا لدعاية الدولة؟
أنا موظف، أنا موظف. شغلي هو أن أوصل سياسة الدولة. شغلي هو أن أقول ماذا تفعل الدولة. هذا بالأساس، ثم أضيف أشياء أخرى، أما أن تقول لي بوق للدعاية، "راه كاين اللي كان يتمنى يكون بوق ديال الدعاية وماوْصلهاش".
الصحراء.. أخطاء تحت الضغط
عشت لحظات حاسمة في تاريخ قضية الصحراء. ما تقييمك للوضع؟
التقييم ليس شخصيا، والتقييم العام هو أن الجزائر ضد استرجاع المغرب للصحراء. والمغرب ليس دولة صغيرة، فهي دولة كبيرة لديها إمكاناتها العسكرية والدبلوماسية والمادية والسياسية، وهي ضد استرجاع المغرب للصحراء. وهي التي لعبت أدوار كبيرة في القارة الإفريقية وضمت حولها كل الدول التقدمية، حيث كانت القارة منقسمة بين دول محافظة ودول تقدمية. وعدد من الدول التي كانت قد نالت للتو استقلالها كانت اشتراكية وشيوعية ويسارية، وهي التي جمعتها الجزائر، وهي التي اعترفت بالبوليساريو منذ اليوم الأول، وهي أكثر من 20 دولة التي اعترفت بالبوليساريو بعد شهرين أو ثلاثة من الإعلان عنه. إذن، نحن نواجه تيارا قويا يرفع شعارا منطقيا من الناحية النظرية، وهو تقرير المصير، ولكن من وراء تقرير المصير، الاستقلال والانفصال.
ولكن لماذا اتخذت الجزائر هذا القرار؟ أولا، أعتبر أن عداوة الجيش الجزائري للمغرب هي عداوة تدخل في تكوينه "الدماغي". في المدارس العسكرية الجزائرية، من الدروس الاستراتيجية الأولى أن المغرب هو العدو الأول للجزائر.
إذا كانت الجزائر تتسلح وتشتري الدبابات والطائرات والصواريخ، فلمن تستعد؟ هل ستضرب تونس أو النيجر أو موريتانيا، أو تتجه شمالا لتضرب فرنسا أو إسبانيا. لا، هذا كله تعدّه لنا. ثم إن الجيش الجزائري يعتبر أن هذه العداوة تكوّن لحمة داخلية تجعل الجزائر، أو هكذا تتصور، موحدة ضد عدو مشترك.
نحن لسنا أعداء، وقد تعبنا من تكرار الدعوة إلى فتح الحدود وتكوين لجان للتفكير والتأمل لدراسة القضايا العالقة. فلنشكل هذه اللجان على أي مستوى تريدون، وحيثما تريدون أن تجتمع. تعبنا من تكرار الدعوة لكن الإخوان هناك لديهم نظريات أخرى ونتمنى على الله أن تؤدي التطورات الحالية إلى نوع من التفكير العميق في تقوية العلاقات.
ما هي، في نظرك، الأخطاء التي ارتكبت في تدبير هذا الملف؟
في أي سياسة، يمكن أن تتخذ قرار ليتبين لك، في ما بعد، أنه كان خطأ أو صوابا. أنت تحت الضغط، ماذا عساك أن تفعل؟ المغرب كان تحت الضغط لأن الحرب استمرت لـ15 سنة في الصحراء. الناس لا يعرفون هذه القضية. الناس لا يتحدثون عن هذه القضية. لقد مات الآلاف من المغاربة من الجيش. رجال جعلونا اليوم نتحدث، أنا وإياك، نتحدث بهذه الحرية. لقد واجهوا هجومات عنيفة. لقد ذهبت إلى الصحراء في ذلك الوقت، حوالي 25 أو 30 مرة، ورأيت الجندي المغربي يموت في حفرته ولا يتراجع ورأيت أشلاء الناس ورأيت دباباتنا منفجرة، وقد تطايرت أجزاؤها. في معركة واحدة في گلتة زمور، أسقطوا لنا ثلاث طائرات. تصور جيشا يفقد في يوم واحد ثلاث طائرات من أحسن أنواع الطائرات، لأن الآخرين استقدموا الكوبيين على السيارات المدرعة ومجهزين بصواريخ "سام". ونحن لم يكن لدينا ما نواجه به تلك الصواريخ. وفي ذلك الوقت لم تكن صواريخ "سام" إلا في مصر، لخبرتها ومرورها في الحرب. و(معمر) القذافي جاء بها وجاء بمن يشغلها كمن اشترى سيارة وجاء بمن يسوقها وبالميكانيكي الذي يصلحها، فقط ليضربونا. وقد كانت هناك طريق مفتوحة بين طرابلس وتندوف. مرت منها مئات الآلاف من العربات بين شاحنات و"جيبات" ودبابات. وقد حاولوا ما أمكن لهم ومررنا بظروف صعبة. وقد تمت محاصرة بعض الأماكن لعام كامل. فمنطقة الزاگ تمت محاصرتها لعام وقد ظل حوالي 500 من جنودنا يموتون هناك، وظلوا "يقنبلونها" بالليل والنهار، ونحن لا نتوفر على ما نغيثهم به، فقط نرمي لهم الأكل والسلاح من السماء في الليل، بعضه يسقط عندهم وبعضه يقع في الخارج. حتى أصبح علينا أن نفتح الطرق والمسالك في الجبال واستقدام وحدة عسكرية تحمل اسم "بدر" للتمكن من المرور لتحريرهم. في يوم التحرير، كنت هناك مع مجموعة من الصحافيين، وعندما دخلنا وجداها كلها حفر وقد تدمر كل شيء. ومن أعتق أولئك الجنود؟ رافقت جنديا وقد طالت لحيته، وسقطت أسنانه، ومن النظرة إليه، يبدو الرجل متعبا يحتاج إلى شهرين من الأكل والشرب والنوم ليرتاح، وبلا شك سيكون قد تأثر نفسيا من هول ما عانى. جلست إلى جانبه، فأخرج سيجارة "تروب" وأشعلها وأردت أن أفتح دردشة معه، من باب فضولي الصحافي، فقال لي، وكانت لديهم عين فتحها الله سبحانه لهم في ذلك الخلاء، وهي ليست عينا قوية، وقال لي "تلك العين نسميها ماء زمزم". تأمل هذه الصورة العجيبة لرجل منهك أصبح بإمكانه أن يفكر أنه يمكن أن يعيش والذي كان يعتاش، في نهاية المطاف، بشيء من الماء وببعض ما يُرمى إليه من السماء بين الحين والآخر. ويقول لي "ذلك الماء هو ماء زمزم ديالنا". لقد دفعنا ثمنا كبيرا. كيف يمكنك اتخاذ القرار وأنت في هذه المعركة؟ ورغم كل هذا، فالغريب أن الحسن الثاني، الذي كان رجل تواصل، لم يكن يعلن عنه. فالبلاغات كانت قصيرة لا تتجاوز ثلاثة أسطر. فقد كان يناديني وزير الإعلام في الثانية صباحا وأذهب عنده بلباس النوم لأتلقى فاكسا صغيرا قدمه له الملك يقول فيه إن معركة وقعت وتوفي فيها كذا وكذا. وهي معركة هلك فيها العشرات من الناس. لم يكن يخبرهم، ولا حتى القريبين منه وظل هو يتحمل، لهذا نجده في أحد خطبه يقول "أنا الذي وصلت إلى الحضيض!". هذا ملك البلاد يقول إنني وصلت إلى درجة تحملت فيها تقريبا هزيمة، وزاد "أبشركم اليوم بأن الأمور، الحمد لله، تحسنت". هذا، لتعرف أنه عندما تتخذ قرارا، يمكنك أن تقول، بعد أربعين سنة، إنه قرار فاشل أو خاطئ. هذا شيء جيد ونحن جالسون في أجواء جيدة ونقول ذاك أخطأ وهذا... ولكن عندما تكون أنت جالس وعليك أن تختار قرارا بين اثنين أو ثلاثة، وقد تختار الجيد وقد تختار السيئ. ولكنك اخترت وسرت قدما. الذي لا يختار ولا يتكلم ولا يكتب ولا يقدم أي تصريح فالله سبحانه وتعالى راض عليه. أما نحن، الصحافيون، إذا كتبت جيدا فمشكلة ويقولون هذا "مبيوع"، أو كما قلت "بوق"، أو يقولون هذا "خائف" ويفتقد للشجاعة وهكذا. إذن، القرار لا بد من ربطه بتوقيت اتخاذه وبالإشكالات التي كانت مطروحة في ذلك الوقت.
ملكان وأسلوبان
من خلال مواكبتك للملك الراحل، ثم مرافقتك، مرارا، لولي عهده، كيف يبدو لك أسلوبا الملكين؟
أسلوب الحسن الثاني ليس هو أسلوب سيدنا محمد السادس، لكلّ منها أسلوبه وشخصيته. كل واحد له طريقته في التفكير، وطريقته في حل مشاكل المغرب.
مثلا، الحسن الثاني، في وقت من الأوقات، قال بأن "هاد إفريقيا ما عندي بها غرض"، وخرج من منظمة الوحدة الإفريقية ولم يفتح سفارات أخرى في القارة وانتهى الأمر، وترك للجزائريين المجال لما يريدون فعله في القارة السمراء. أما محمد السادس، فبعدما وصل وفكر وحلل، قال "هذا خطأ دبلوماسي، ولا بد أن أصلح هذا الخطأ. أنا غادي نمشي ندّابز معاهم فهاديك إفريقيا، وبلاد، بلاد، غادي نمشي ليها ونزورها ونوقف عندها ونبقى معاها وغادي نرجع لمنظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي)، ولن أتركها تصدر كل عام قرارا حول الاستقلال وكذا وكذا". لهذا وجدناه فكريا وفلسفيا واستراتيجيا وحتى جسديا، حيث زار عددا كبيرا من الدول الإفريقية. فلا يمكنك أن تتصور الصعوبات التي عليك تجاوزها لتزور دولة إفريقية، أنت كشخص، إذا أردت أن تزورها يلزمك عدد من الأدوية، أما إذا كنت ملكا، فيلزمك عدد من الإجراءات الأمنية والإعدادات الدبلوماسية ومجموعة من الهدايا وماذا ستعطيهم وبماذا ستعدهم؟ إذن، هذا نوع من التميز بين قرار اتخذه الحسن الثاني وقرار اتخذه محمد السادس. وهذا يمكن أن نطبقه على عدد من المراحل الأخرى. مثلا، في الوقت الذي انغلقت إفريقيا ولم نعد نستطيع الذهاب إليها، انفتح الحسن الثاني على الشرق العربي وجعل المغرب يحتضن مؤتمرات القمة العربية الواحد تلو الآخر.
في علاقة بالقضايا العربية، مع من تتحدث من العرب الآن؟ أي بلد عربي فيه توتر وإطلاق النار، إذن لم تبق الإمكانية للسير في نفس السياسة التي كان يتبعها الحسن الثاني.
إذا أردت أن تستضيف الرؤساء العرب، من ستدعو و50 في المائة منهم لا شرعية له، وهم متسلطون على الحكم فقط، ودول أخرى تغلي، وإن كانت لدينا علاقات قوية مع دول الخليج؟
الجمهورية السلاوية
ذكرت، في كتابك الأخير، أن الكتابة أكبر تحدّ للشيخوخة. ولابد أنك عازم على الاستمرار في الكتابة. ماهي مشاريعك المقبلة؟
عندما أُحلت على التقاعد، قضيت سنتين لم أفعل فيهما شيئا. فقط سافرت و"غافرت" فيها وارتحت. لكن كانت ستصل 10 سنوات على وفاة الوالد رحمه الله. والوالد كان قد ترك حوالي 25 كتابا، منها 11 كتابا من المذكرات تحمل اسم "ذكريات ومذكرات". إذا جمعت "ذكريات ومذكرات" الوالد، ومذكراتي ستجد أننا، نحن الاثنين، تحدثنا عن تاريخ المغرب لمدة 110 سنوات. فقلت لابد أن أفعل شيئا لكي نتذكره، فقلت سأعد مناظرة يحضر فيها من عايشوه ومن عرفوه ومن اطلعوا على كتبه وعلموا أنه كان وطنيا في الثلاثينات ودخل السجن وغادر إلى المنفى وكان مشاكسا وترأس مظاهرات... بدأت أضع الأسماء فخطرت لي فكرة، وهي أن أكتب كتابا من 60 أو 80 صفحة نوزعها في ذلك الوقت وعندما أردت الكتابة، وجدت الأمر صعبا، وأنا أريد أن أعترف لك أن الكتابة استعصت علي. وفي وقت من الأوقات، وقع لي زلزال نفسي، فقلت إنني أصبحت عاجزا عن الكتابة. وعندما أكتب، أشعر بأن تلك الكتابة ليست ذات بال، من حيث الأخطاء وغير ذلك. لقد شعرت بعسر في الكتابة، ولكنني دخلت في نوع من العناد وعدت إلى الله، سبحانه وتعالى، وقمت بالأدعية، وشيئا فشيئا، بدأت تنطلق يدي وشرعت في الكتابة. فأخرجت كتابا عن الوالد، أنجزته في عامين، وجمعت فيه عددا من الوثائق من المغرب والخارج، تهمّه وتهم الحركة الوطنية وكتبت عن هذه الأخيرة من خلال نموذج الوالد. وهذا الكتاب سميته "الحاج أحمد معنينو المجاهد"، وأصدرت الطبعة الأولى وانتهت، وأخرجت الطبعة الثانية وانتهت. وأنا كلما أخرجت طبعة جديدة إلا وعدت لمراجعة الكتاب وتنقيحه وأزيد فيه وأنقص منه وأنا من الناحية الجسدية لم تعد لي القدرة عل ذلك.
في غمرة تلك الكتابة، فكرت أن أكتب مذكراتي وقلت إنني أتوفر على مجموعة من الوثائق والصور ووثائق إدارية وسياسية وفلسفية، فأعددت مخططا، وقلت إنني سأصدرها في ستة أجزاء. وكل جزء حبسته في عدد من السنين؛ عشر سنوات بالنسبة للأجزاء الأربعة الأولى، ثم خمس سنوات لكل جزء من الجزأين الأخيرين، وشرعت في الكتابة.
وعندما خرج الجزء الأول، "جاب الله التيسير"، أعجب به الناس وقرأوه وشرعوا في تداول مجموعة من الحكايات التي أوردتها فيه، وخرج الجزء الثاني، فالثالث، وجاءت عندي الإذاعة والتلفزيونات والصحف، فوقع انتشار حتى أنهيت الأجزاء الستة والحمد لله.
وأنا أقول في الكتاب، على سبيل الدعابة، أنني عندما شرعت في الكتابة دخلت في مفاوضات مع عزرائيل وقلت له "الله يخلّيك يلا ما اغفل عليّ واحد ست سنين على ما نكمّل هاد الكتوبا، ومن بعد يلا بغيتي تجي مرحبا بيك. ما كاين مشكل".
في هذا الكتب، أعلن أنني سأبدأ سلسلة جديدة، وهي أيضا من ستة أجزاء. ربما لم يسبق لي أن قلت هذا. عنوانها غريب شيئا ما، وهو من تلك العناوين القديمة، وهو "نفض الغبار عن النادر من الأخبار"، والجزء الأول، الذي شرعت في كتابه، يتحدث عن مدينة سلا في بداية القرن السابع عشر. هذه الفترة لم تأخذ العناية اللازمة للدراسة لأنها شهدت أحداثا مهمة، عبرها أتحدث عن المغرب. فقد كان هناك القراصنة، لأن نهاية حكم السعديين عرفت فوضى عارمة في المغرب وكانت هناك طموحات لعدد من رؤساء الزوايا ورؤساء جهويين لحكم المغرب، حيث كان السملاليون في سوس، والعلويون في تافيلالت، والدلائيون في الأطلس، والعياشي بين أصيلة والجديدة، وغيلان... المهم كانت هناك العديد من الطموحات، وفي سلا كان الأندلسيون الذين جاؤوا ومعهم ثقافتهم وأسلوب حياتهم وتقنيات كثيرة في البناء وإخراج الماء والسقي والخياطة وغير ذلك. وهؤلاء وصلوا إلى درجة أنهم أعدوا ديوانا ليحكمهم لأن سلاطين السعديين لم يعودوا يحكمون بعد أن توزعوا بين فاس ومراكش، فأنشأوا "جمهورية" اسمها "الجمهورية السلاوية" التي لم يكتب عليها المؤرخون المغاربة ولكن الأجانب، إما الذين زاروا المغرب في ذلك الوقت، أو الذين كانوا أسرى في ذلك الوقت، أو كانوا من الكنائس التي كانت تفاوض على إطلاق الأسرى، هؤلاء كتبوا عن المغرب وكتبوا عن هذه المنطقة. فأنا قمت بتجميع ما كُتب ووصلت لبعض الخلاصات، كصحافي وكفضولي، وأؤلف الكتاب الأول الذي سميته "جمهورية القراصنة".
وإن شاء الله، سأزيد الجزء الثاني، الذي سأسميه "السلطان والأسير"، وأقصد بالسلطان مولاي إسماعيل، الذي توجت إليه العديد من التهم. وأنا لست مؤرخا وأقول ذلك في كتابي. أنا لا أنتمي إلى قبيلة المؤرخين وليست لي أي صلة بالتاريخ. هذا صحافي يكتب حسب مزاج الصحافي، لهذا كتبت على مولاي إسماعيل و"الأسير" وهو أسير مغربي تسبب في حزازات كبيرة بين السلطان مولاي إسماعيل والملك الفرنسي الكبير لويس الرابع عشر وكان قد طلب منه إطلاق سراحه ولم يفعل "وأطلقه دون أن يطلقه" وذهبت السفارة وأخفوه عنها ووقعت العديد من المشاكل. ولماذا اهتممت بهذا الأسير؟ حتى أكون صريحا معك، لأن اسمه كان عبد الحق معنينو، من أسرة آل معنينو (يضحك)...
في ذلك شيء من الذاتية...
كثير من الذاتية (يضحك).