نُشِرتْ رواية "الانسان الصرصار/ رسائل من أعماق الأرض" للكاتب الشهير فيودور دوستويفسكي سنة 1864م، وتُرجمَتْ للعربية بعناوينَ مختلفة، وهي تُعدُّ أحد أفضل أعمال الأدب العالميّ، وأولى الأعمال الوجوديّة حسب الكثير من الفلاسفة. تنقسم الرواية إلى قسمين؛ القسم الأول؛ بعنوان “تحت الأرض”، والقسم الثاني؛ بعنوان “مُهداة إلى الثلج النديّ”.
تحكي الرواية عن موظف حكوميّ بيروقراطيّ مُتقاعد، يعيش في مدينة سانت بيطرسبرج الرّوسية. وهو يعيش في كآبة وضعْف، ولا يفعل شيئًا سوى إزعاج الآخرين. وبعد حصوله على القليل من الإرْث العائليّ تقاعد من عمله.
ينتقد دوستويفسكي في هذه الرواية عادةَ إخبار أنفسنا فكرةَ أنّه إذا تغيَّر هذا الشيء أو ذاك، أو حدث هذا الشيء أو ذاك، فإنَّنا سنتحرَّر من آلامنا كالإقبال على عمل جيّد أو تغيير الحكومة أو توفير بيتٍ رائع، وأن نرتبط مع أشخاص أو نفارقهم حينها كلّ شيء سيكون على ما يرام.
يصرُّ دوستويفسكي على أنَّ هذا وهم؛ لأنَّ العذاب نال منَّا دومًا. وخُطَطُ تحسين العالم دائمًا ما تحوي الأخطاء، ولن تُنهي العذاب، بل ستُنهي الأشياء التي تُسبِّب لنا الألم والحياة فقط. لن تكون هناك عملية تغيير لمراكز الألم، ولا إزالةٌ للألم ذاته، فالحياة عبارةٌ عن ألم رغم ما نفعله، فسوف يظلُّ هناك ما يُعذِّبُنا ويؤلمنا دائمًا.
يقول دوستويفسكي: “إذا أَوقفْتَ المجاعة التي يُعاني منها الناس بخطةٍ عجيبة ستكتشف سريعًا أنَّ هناك أنواعًا جديدة من العذاب، وسيبدأ الناس بالمعاناة من الضجر أو الطمع أو الكآبة الحادّة لأنهم لم يُدعَوا إلى حفلة ما”.
يحتوي القسم الأول أحد عشر فصلًا، يُبرز الكاتب فيها أفكاره ومعتقداته. وقد تناول الفصل الأول في المقدمة الأحاجي التي سيحاول الإجابة عنها لاحقًا. وأما الفصل الثاني والثالث والرابع فتحدّث فيها عن ألمه ومعاناته، وكيف يتمتّع بهما. وفي الفصل الخامس والسادس، تحدَّث فيهما عن الفِكر وتذبذب الأخلاق، وأبرز قوانين الطبيعة في الوعي.
وفي الفصل السابع إلى الفصل التاسع، تحدَّث فيها عن نظريَّاته في المنطق والعقلانية. أمَّا الفصلان الأخيران فهما بمثابة مُقدِّمة وتحويلة إلى القسم الثاني الذي يحتوي على الأحداث الفعليَّة للقصّة، فهو يحكي فيه عن بعض الأحداث المهمّة، التي غيَّرت حياته؛ مثل صراعه مع الضابط الذي كان يكرهه، وتفكيره في الانتقام منه، وعلاقته مع الفتاة التي تعمل كعاهرة.
قام دوستويفسكي في هذه الرواية باعطاء انتقادًا قاسيًا للحتمية، والمحاولات الفكرية لإملاء الفعل، والسلوك البشريّ، والتمكُّن من كشْف قوانين علْم النفس الفرديّ حسب المنطق، وبناءً على ذلك فإنَّ البشر لا يملكون حرية الاختيار، وأنَّ التاريخ محكومٌ بالقوانين، وأنَّه من الممكن تصميم مجتمع خياليّ.
هذه الأفكار كانت منتشرة عند العديد من المثقَّفين آنذاك، ومازال العديد منهم يتواجد بيننا اليوم. لقد كانت هذه الرواية نقدًا واضحًا لأصحاب الاشتراكية والأفكار اليوتيوبية التي اجتاحت المجتمع الروسيّ آنذاك. إذ وضح دوستويفسكي أنه لا يُمكن لمرءٍ أن يتجنَّب حقيقة بسيطة؛ أنَّ أيَّ شخص في أيّ وقت يُمكنه أن يُقرِّر التَّصرف بطريقة تهمُّ مصلحته الشخصية، فهناك من سيفعل ذلك ببساطة لإثبات وجوده، والاحتجاج والتأكيد على أنهم موجودين كأفراد أحرار، ومستقلّين بشخصيَّتهم.
وقام أيضا بانتقاد نوع المصلحة الذاتية المستنيرة أيضًا، التي يطرحها الاشتراكيّ الروسيّ نيكلاي تشيرنيشيفسكي؛ هذه الفكرة التي تقول بأنَّ الأفراد الذين يتصرّفون من أجل مصلحةِ الآخرين أو مصلحة الجماعة يحصلون بذلك على المصلحة الذاتية، وهذه الفكرة تحاول أن تكون نقيضًا لفكرة المصلحة الخاصّة التي تؤدّي للمصلحة العامة التي طرحها آدم سميث باسم اليد الخفيّة.
يُجادل في رواية الرجل تحت الأرض، أنَّ الناس سيكرهون أن يُحرموا من الهوية، وعلْمُهم بأنَّ التنبؤ بهم وبأفعالهم قابلٌ تمامًا.
اعتبر عالمُ النفس الشهير جوردان بيترسون، أنَّ أحد أهمّ الكتب النفسية التي قرأها وواحدٌ من أهمّ الكتب نقدًا للأفكار اليوتويبية والخيالية هي كتاب دوستويفسكي” مذكرات قبو”، وكان مندهشًا بالطريقة التي طرح بها دوستويفسكي نقده، وبالطريقة التي كتب بها الكتاب لإيصال مثل هذه الفكرة المُهمّة التي مازلنا في حاجة ماسة لفهمها وأخذها بعين الاعتبار اليوم.