لم يكن من حديث في وسائل التواصل الاجتماعي وكثير من وسائل الإعلام في الأيام الماضية إلا عن امرأة ازرو، تلك التي ادعت أنها حامل بجنينها منذ تسع سنوات ، وأنه يتجاوب معها ويتحرك في بطنها كما هو الشأن في كل جنين طبيعي في أشهره الأولى.
نعلم جميعا أن هذه ثقافة شعبية لها سوقها الواسع، وأن عقيدة " الراكد" لها رواجها في التراث الشعبي، ولا زال كثير من الناس يصدقون وقوعها، ويؤمنون بأن الجنين قد يمكث في بطن أمه سنوات، وقد سبق للمخرجة ياسمين قصارى أن عالجت هذا الموضوع في فيلم جميل حاز على عدد من الجوائز.
من المسلم أيضا أن نقول أن الطب الحديث يرفض هذه الخرافة رفضا قاطعا، ولا يعترف بها مطلقا، ولا يزيد على تفسير الظاهرة بالاضطراب النفسي الذي يعتري المرأة التواقة للحمل أو الخائفة منه، فتنهي ذلك كله بتخيل الحمل وشعورها به شعورا تاما يؤدي لظهور أعراض الحمل الطبيعي عليها، فهو حمل نفسي كاذب لا حقيقة له في الواقع.
لكن هذا الرأي يختلف تماما مع حديث الفقهاء ورأيهم في الموضوع، فقد كادوا يجمعون على التماهي مع الثقافة الشعبية التي تصدق هذا الادعاء، نظرة بسيطة على المذاهب الفقهية تعرف معها اتجاهاتهم في هذه النازلة،فقد اختلفوا في ذلك على أقوال:
– الحمل قد يستمر إلى سنتين: مذهب الأحناف
- أقصى الحمل أربع سنين، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وأشهر القولين عند المالكية
– أكثر الحمل خمس سنين، وهي رواية عن مالك
- أقصى الحمل ست سنين، وهي تروى عن مالك والزهري.
- أن أقصى الحمل سبع سنين، وبه قال ربيعة وهي رواية عن الزهري ومالك.
فالروايات عن مالك كثيرة، لكن متفقة على أن الحمل قد يستمر سنوات، بل استنكر مالك على من ينكر ذلك :
فعن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت: " لا تزيد المرأة في حملها عن سنتين قدر ظل المغزل " فقال: (سبحان الله، من يقول هذا ؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان، امرأة صدق وزوجها رجل صدق، وحملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل في كل بطن أربع سنين ).
وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا حد لأكثر الحمل، فإذا ظهر بالمرأة حمل أو وجدت القرائن الدالة على الحمل كالحركة في البطن فإننا ننتظر وإن طالت المدة.
فهم وإن اختلفوا إلا أنهم يتفقون جميعا على أن الحمل قد يبلغ سنتين بالتمام والكمال، وعند بعضهم لا حد له مطلقا حتى لو بلغ عشرين سنة أو أكثر، مما يطح سؤالا مهما: من يوجه الآخر؟ الثقافة الشعبية توجه الفقه أم أن الفقه من يؤطر ويوجه الاختيارات الثقافية؟ فمن الواضح جدا أن الفقه هو الذي تماهى مع ما يروج بين الناس وما تدعيه بعض النساء، ولم يقف موقفا حاسما من قضية مرجعها الطب وليس أحاديث السطوح ومشاكل الأزواج.
إلا أن السؤال الأكثر أهمية في نظري، هل لا زال الحديث عن تعارض الفقه والعلم ممكنا؟ لأن كل ما سبق من أقوال، قد يمكن قبولها في سياقها، بحكم تخلف العلوم الطبية عما بلغته اليوم، وبحكم أن الطب في ذلك الزمن لم تكن له من الإمكانيات ما تجعله حاسما في رد هذه الادعاءات، لكن المصيبة حين لا زال البعض إلى اليوم زمن الأشعة الصوتية وفوق الصوتية يدافع عن هذه الأساطير والخرافات، استنادا إلى ما ذكره الفقهاء، ولو عارض ذلك كل مقررات جامعات العالم ومستشفياتها الجامعية.
لا زال هؤلاء إلي اليوم لم يدركوا الفرق بين العلم والدين، وأن دوائرهما تتباين كليا، لا في الأصول ولا في الغاية ولا في المنهج والوسيلة، فلكل مجاله واشتغاله وطريقته، فالدين مجاله الروح والإيمان والعقائد والغيبيات الأخروية والقيم الأخلاقية، وسبيله في ذلك الوحي والنبوة والرسالة، والعلم موضوعه المحسوس والمادة، وسبيله المشاهدة والتجربة، والخلط بينهما والاعتداء على التخصص هو ما أدى لهذه الكوارث، وأنتج هذا التناقض والتعارض.
لقد حض القرآن على العلم والقراءة، ودعا إلى التأمل في ملكوت السماوات والأرض، وشجع على النظر والتأمل والتعقل، لكنه لا يضم تفاصيل العلوم، وليس كتابا مخصصا لها، هو كتاب هداية وليس مقرر طب أو فيزياء أو علوم طبيعية، وليس من مهمته ولا رسالته أن يخبرنا إن كانت الأرض كروية أم مسطحة، أو يحدثنا عن مكونات الذرة، أو يدلنا على طريقة لحل المعادلات الحسابية، لأنه ببساطة كتاب دين وليس كتاب علم.
ربما كان هذا الخلط مقبولا، حين كان الفقيه طبيبا وفيلسوفا وأديبا وعالم اجتماع، لكنه غيرمقبول اليوم في عالم التخصص، فلكل مجاله واشتغاله ولا حق لأحد في الاعتداء على تخصص غيره، بذلك نضمن حيادية العلم وموضوعيته، كما أننا بذلك نحمي الدين من التعرض للإساءة واتهامه بالتخلف والتناقض.
تفسير ظواهر الطبيعة محلها العلم ومشاهداته وتجاربه، وما عارض الدين من ذلك لو وجد، فهو إما حديث فقهاء ومفسرين ليس بحجة ولا معتبر في الباب، وإما نص مكذوب، وإما نص صحيح لابد من تأويله وإعادة قراءته ليبقى الكون كما هو على حد تعبير ابن رشد.