المشهد الجيوسياسي العالمي في زمن الأزمة الصحية الكبرى (كوفيد19)

تيل كيل عربي

في ورقة منشورة حديثا على موقع مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد، وهو مركز تفكير مغربي مقره بالرباط، يرصد رشيد الحضيكي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة عبد المالك السعدي، ملامح التحول الذي يشهده المشهد الجيوسياسي العالمي نتيجة الصدمة الكبرى التي فجرها وباء كوفيد 19.

رشيد الحضيكي

ترجمة : نزار فراوي

يعيش العالم وضعا غير مسبوق. توقف نبض الاقتصاد العالمي، بلدان بكاملها في عزلة اضطرارية، ملايين الأسر منكفئة في البيوت ومجموعة دولية تتجرع عجزها عن التحرك بشكل جماعي. أي معنى لهذا الواقع المعقد بالنسبة للملاحظ، أي مدخل يمكنه اقتراحه لقراءة الأحداث، ومن أي زاوية إيديولوجية؟

يتوقع جميع المراقبين بيقين حدوث تحولات عميقة، لكن ليس بمقدور أحد أن يحدد بدقة أبعاد وآفاق الانعطافة أو القطيعة المحتملة. بالفعل، يراوح العالم حتى الآن منزلة الذهول والهلع، وستتضح أمامه الرؤية عندما تنضج الغايات الاستراتيجية للدول.
والحال أن وضع أزمة كوفيد 19 في سياقها الجيوسياسي والجيو اقتصادي والإدراكي يمنحنا عناصر ومؤشرات حول الثوابت والمتغيرات، المفكر فيه سلفا واللامفكر فيه، العقلاني واللاعقلاني.

خلف هذا الضباب العالمي، ترتسم أمامنا بوادر وضع يكرس استقرار توازن تنافسي، ناجم عن تضافر ثلاثة مسارات ذات علاقات سببية متمايزة: 1) تسريع الدينامية السياسية العالمية، 2) انعطاف جيو اقتصادي، 3) تعديل أولويات السياسات العامة الوطنية والأجندة العالمية للأمن.

في هذه الورقة الأولى، أقدم قراءتي للرهانات الجيوسياسية لما بعد كوفيد19 على أن تتناول الورقتان المقبلتان تباعا المحورين الثاني والثالث.

نظام عالمي مضطرب

ترتب عن الأزمة الصحية لكوفيد 19، على غرار هجمات 11 شتنبر 2001، وبدرجة أقل أزمة الهجرة لعام 2015، مفعول صدمة سيهز حتما السياسات العمومية للأمن والأجندة العالمية، غير أن العناصر المتوفرة لا تحمل على الاعتقاد بحدوث قطيعة وشيكة في النظام الدولي، كما يزعم بعض المراقبين.

إن النظام الدولي لا يشهد تحولا كليا إلا في سياقات تاريخية استثنائية تأتي لتخلخل هندسة التفاعلات لفائدة بنية جديدة وتوازن جديد: كان ذلك شأن الحرب العالمية الثانية وبروز النظام الثنائي القطبية، مصحوبا مع ميلاد تعددية الأطراف. ثم جاء اختفاء الاتحاد السوفياتي ورديفه: النظام الثنائي القطبية. ومنذئذ، تعيش العلاقات الدولية في ظل تجاذب مستمر بين قوتين متضادتين: تعددية أطراف ضرورية، لكن ضعيفة، وتسابق صيني أمريكي بأبعاده المتعاظمة.

إن العالم مدعو للتعاطي مع معضلة. كيفما كان المنحى الذي سيتخذه التسابق الصيني الأمريكي، صداميا أو توافقيا، فإن المآل يقود في النهاية إلى تحول للنظام الدولي: من شأن الصدام أن يفضي إلى اختلال توازن، بينما تضع التسوية، من خلال اتفاق، قواعد توازن تنافسي. كلا الأفقين يفضيان إلى "لعبة الكراسي الموسيقية"، بما يفيد تعديلا في توزيع القوة بين الفاعلين الأساسيين واصطفافا مغايرا لباقي العالم.

يكمن السؤال في معرفة أي من الأفقين أكثر قابلية للتحقق. يتوقف الاتجاه نحو هذا أو ذاك، جزئيا، على هوية الفائز في الرئاسيات الأمريكية ل 3 نونبر 2020. في حال أعيد انتخابه، سيواصل دونالد ترمب دبلوماسية "الضغط الأقصى"، أما إن دخل رئيس ديموقراطي إلى البيت الأبيض، فسنشهد بالتأكيد تحولا في المقاربة نحو دبلوماسية توافقية تجاه الصين.

تسريع الدينامية السياسية العالمية:

ظهرت أزمة كوفيد 19 في سياق وضع جيو- سياسي عالمي متوتر بفعل ثقل التنافس الصيني الأمريكي. هي بالتالي بمثابة رهان لدينامية قائمة سلفا يكرسها منطق اعتماد الحل الأكثر مردودية (أدنى كلفة-أقصى ربح). إن أولى ردود الفعل الدبلوماسية تعكس حتى الآن لعبة نفوذ، يسوق كل طرف فيها روايته لأدوار الشرير، الضحية والمنقذ. على هذا الصعيد، تتقدم الصين على القوى الكبرى لتكتسي، بسرعة رد فعلها وحجم سياسة "العطاء" التي تنهجها، صورة القوة الكبرى النافعة والمسؤولة. في وقت قصير، تموقعت كمصدر للدعم بالنسبة لأزيد من مائة دولة فضلا عن المنظمات الدولية، على غرار منظمة الصحة العالمية والاتحاد الإفريقي، مساهمة بالتالي في تعبيد "طريق حرير صحية".

في المقابل، تراوح الولايات المتحدة وأوروبا، الواقعين أسيري هاجس فقدان المكانة، موقع الدفاع، باحثين عن مكان في "معركة السرديات" الكبرى، بتعبير رئيس دبلوماسية الاتحاد الأوروبي، جوسيب بوريل.

يتكرس هذا الاضطراب في غياب الريادة الأمريكية على ساحة مكافحة الجائحة وكذا في ضعف التنسيق البيني الأوروبي.
أما باقي العالم، وبخاصة إفريقيا، فإنه يتفرج مشدوها على لعبة نفوذ تتجاوزه، لتنطوي على انعكاسات جيوسياسية بالغة. مفتقرة إلى الوسائل والقدرات، تجد الدول الافريقية في الصين شريكا أكثر مبادرة وفعالية من الولايات المتحدة وأوروبا. صحيح أنها في حاجة الى المساعدة الدولية لمواجهة الجائحة، لكن الخطر كبير في أن يفضي هذا الدعم إلى اصطفاف مصالح كبير تجاه القوى الكبرى.

من مصلحة إفريقيا إذن أن تتحرك بشكل شمولي كي تحتمي من التداعيات الجانبية البالغة للمشهد الجيوسياسي الجاري.
إجمالا، تبدو الأزمة الصحية كوفيد 19 حتى اللحظة بمثابة عامل تسريع للتاريخ. يبقى أن نعرف إلى ماذا ستفضي لعبة النفوذ هاته، اتساعا في التفاعلات الصراعية بين الولايات المتحدة والصين أو انعطافا نحو تسوية خاصة بشأن تدبير منسق للقضايا العالمية داخل المؤسسات متعددة الأطراف، منفصلة عن باقي رهانات التنافس.

(مترجم عن مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد)