يكشف الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بإصلاح الإدارة والوظيفة العمومية، محمد بن عبد القادر، في الجزء الأول من حواره مع "تيل كيل عربي"، مستقبل الوظيفة العمومية في المغرب، والإصلاحات التي ستعرفها، والآليات التي ستعتمد في استفادة الموظفين من الترقية. كما تطرق الوزير إلى أعطاب التوظيف في القطاع العام، ونظرته لسياسة الوظيفة بالتعاقد، فضلاً عن حديثه المباشر عن الخلل الذي تعرفه الوظائف العليا.
يرى جل خريجي الجامعات والمعاهد العمومية أن الدولة ملزمة بتوظيفهم ويفضلون القطاع العام على الخاص. هل التوظيف حق للجميع؟
كلمة "مخبأ" التي استعملها الملك في خطاب افتتاح الدورة التشريعية، عندما تحدث عن إصلاح الإدارة، كانت إشارة بليغة تحيل على أن الوظيفة في المغرب أضحت مخبأ ووسيلة راحة أبدية، إذ يضمن من خلالها الموظف راتبا شهريا طول حياته، ولو تراخى أو لم يقم بمهامه.
الوظيفة العمومية لم تكن منذ تاريخ المغرب عن جدارة واستحقاق، أو عن طريق سد الحاجيات في بعض القطاعات، بل كانت عملية التوظيف في وقت سابق تسد بها الدولة الثغرات لإرضاء فئات معينة (قدماء المحاربين، معارضين سياسيين، معطلين في فترة البصري.. الخ). ومثل هذه الحالات خلقت علاقة وجدانية لا شعورية بين المواطنين والوظيفة فأصبحت "حمائية"، بحيث تؤمن لأقاربهم دخلا واستقرارا اقتصاديا واجتماعيا. وبالتالي أصبح المغاربة ينظرون إلى التوظيف أنه حق للجميع، وبأن الدولة ملزمة بتوظيف الجميع بما فيهم حاملي الشهادات.
المنظومة الحالية التي تخرّج لنا مئات الشواهد، هي منظومة مفلسة تفتقر إلى الكفاءات، تضطر معها الدولة إلى أن تقوم بتوظيفهم لتهدئة الأوضاع.
الآن ما يعرف بحركة العاطلين (ولا أسميهم المعطلين) لم ترفع شعار الحق في التشغيل، بل رفعت شعار الحق في الوظيفة. هذا التفكير هو نتاج منظومة متهالكة كونتهم على مفهوم الوظيفة وليس على المقاولة. وبحسب الدستور فالشغل حق للجميع بخلاف الوظيفة العمومية.
المشكل أكبر من التوظيف، إذ إن المنظومة الحالية التي تخرج لنا مئات الشواهد، هي منظومة مفلسة تفتقر إلى الكفاءات، تضطر معها الدولة إلى أن تقوم بتوظيفهم لتهدئة الأوضاع. لكن هذا الوضع يضر بمردودية وجودة الإدارة المغربية. هذه الأخيرة وبفعل أسلوب التوظيف القديم أصيبت بالتسحر والشح ولم تعد تنتج الكفاءات، لذا يجب التخلص منها والتفكير في منظومة وطرق أخرى.
هناك من يشدد على أن مشكل الإدارة يكمن في منظومة التوظيف وليس في الموظف؟
سأتحدث للجواب عن ما طرحته، على نظام الترقي في الوظيفة العمومية،وهو من أعطاب الإدارة؛ إذ أن الموظف يترقى بشكل أوتوماتيكي، بحكم أقدميته وليس بناء على كفاءته أو مردوديته. ويتم الترقي بحسب التنقيط وليس بالتقييم، ومن طرف الرئيس والمدير وليس من خلال تقييم العمل.
كما أن نظام الرواتب في الوظيفة العمومية، لا يسمح باستقطاب الكفاءات. لذا فأغلبهم يلجأ إلى القطاع الخاص لعدة مغريات. كما أن الإدارة المغربية تعيش وضع احتباس بسبب تعقد منظومة الأجور، وبسبب المساطر المعتمدة في التوظيف. هذا النموذج أيضا، لم يعد صالحا في الإدارة العمومية ويجب تغييره.
من جهة أخرى، بعض الموظفين في الإدارات، وهذا يشهده أغلب المغاربة، لا تُعرف وظيفتهم ولا دورهم، بحيث يظل أياما في مكتبه دون أن يقوم بأي شيء، وهو محسوب على الدولة ويعتبر موظفا دائما، لذا قد لا يهمه وجود ما يفعل من عدمه. إضافة لذلك لا يطور هذا الموظف نفسه أو يبحث عن أفكار جديدة، بل وأحيانا تصرف الإدارة أموالا على حواسيب وآليات متطورة فتجده لا يريد العمل بها، ويفضل الورقة والقلم، بدعوى أنه لا يجيد التكنولوجيا أو لا يحبها. هذه النماذج من الموظفين عالة على المغرب.
قلت بوجود خلل في منظومة الوظيفة. لكن هل في نظرك خيار التوظيف بالتعقاد يمكن أن تتجاوز به الدولة "الموظف العالة على المغرب"؟
بعد استيفاء الوظيفة العمومية كل إمكانياتها ومناصبها وكذا آلياتها، انتقلنا إلى مرحلة الامتحانات والمباريات. وأصبح الدبلوم شرطا لقبول المتقدم لاجتياز المباريات بحسب النص القانوني. لكن التعاقد فهو مرسوم صدر في 2016، يسمح للإدارة بتشغيل بعض الخبراء في مهام معينة وفي مدد محددة بموجب عقود. لكن التشغيل في الوظيفة العمومية لا يزال يتم بالتوظيف النظامي بالمباراة، مع استمرارية التوظيف على المدى البعيد "الدائم"، الذي لم يتم المساس به لحدود الآن.
ما يسمى بالتعاقد جاء نتيجة حالة عجز تعرفها الإدارة المغربية، جراء المنظومة القديمة للوظيفة العمومية. وللشرح أكثر: نفرض أن إدارة ما تحتاج تطبيقا أو خدمة إلكترونية معينة، لا يمكنها في هذه الحالة توظيف خبير أو مهندس مدى الحياة بعد إنهائه مهمة معينة.
مسألة أخرى لا بد من التنبيه إليها، وهي أن الوظيفة العمومية سائرة في طريق الاستلهام من القطاع الخاص. فهذا الأخير لا يتم الترقي فيه إلا بالكفاءات وبالمردودية التي أنتجها المستخدم، لا بما يضمنه له سلمه الوظيفي. الحالة الراهنة بالمغرب تخلق "لا عدالة أجرية" داخل القطاع العام، بحيث نجد موظفا في نفس المكتب يعمل أكثر من زميله، لكن بعد مرور سنوات تتم الزيادة في أجورهم بنفس الدرجة. يجب التركيز مستقبلا على الزيادة في راتب القطاع العام، ليس بناء على الأقدمية فقط، بل على تطوير كفاءة الشخص أو تراجعها.
عمليا، كيف ستتم إعادة هيكلة الإدارة المغربية، هل سيتم إصلاحها من فوق أو من أسفل، وكيف ؟
هذا الأمر ليس هينا، ويجب تثبيته أولا داخل الإدارات وبين الموظفين الذي تدرجوا على نظام وظيفي سائد منذ سنوات. قبل 3 أيام أطلقنا مشاروة وطنية على شكل جذاذة من 13 سؤالا، عبر موقع الوزارة، وذلك لإشراك المعنيين واستطلاع رأيهم بالتغييرات والمقترحات المقبلة. لحد الآن لا زلنا نجمع الآراء والبيانات من داخل قطاع يضم أكثر من 600 ألف شخص في أسلاك الوظيفة العمومية.
ارتأينا أن نقوم بالإصلاح من أعلى، فالخلل موجود في أعلى المناصب في الإدارة.
إصلاح الإدارة يحتوي على فروع وأقسام وتفرعات وتراتبية، من الصعب ضبطها في مدة وجيزة. وبما أن الجسم الوظيفي مريض، فإننا ارتأينا أن نقوم بالإصلاح من أعلى، فالخلل موجود في أعلى المناصب في الإدارة. وأول خطوة هو الوظيفة العمومية العليا، ككبار المسؤولين.. أي إعادة النظر في تعيين الكتاب العامين والمفتشين والمدراء. وسيتم تقييم عملهم ومحاسبتهم بناء على إنتاجهم ومردوديتهم. كما أنه قبل تعيينهم يجب النظر في تكوينهم ومدى كفاءتهم.
مثلا في الوزارات يرث الوزير الكاتب العام للوزارة من الذي سبقه، وقد يورثه لمن بعده، لكن لا أحد يسأله أو يقيّم أعماله وكيف يشتغل وما هي كفاءاته. هذا لا يعني أنهم لا يشتغلون، لكن من الأفضل لو أننا غيّرنا منظومة التسيير. في هذا الباب، وسيرا على خطى القطاع الخاص، سنقوم بالعمل بناء على "برنامج عقود"، يقوم بالأساس على الاتفاق مع "الموظف المسؤول" حول إنجاز بعض المشاريع، ويكافأ بحسب نسبة تحقيقه للأهداف المسطرة لها.
مشروع إصلاح الإدارة العمومية ظل مؤجلا لثلاث حكومات سابقة، وحكومة بنكيران التزمت وقامت بالتشخيص وبالدراسة، لكنها لم تشرع فيه. الحكومة الحالية ستشرع في مراجعة منظومة الوظيفة العمومية بشكل عام. وحاليا نقوم بالإعداد لتنظيم "ملتقى للوظيفة العمومية العليا" يوم 27 فبراير المقبل، وسيضم أكثر من 600 موظف في مناصب عليا (كتاب عامون، مفتشون، مدراء مؤسسات..)، وذلك لعرض ومناقشة القوانين والتغييرات التي ستشملها الإدارة.