بقلم: عبد الصمد ايشن - باحث بسلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس الرباط
بلغ عدد زوار المعرض الدولي للكتاب والنشر بالرباط هذه السنة حوالي 403 آلاف زائر، بينما بلغ عدد زوار معرض الفلاحة بمكناس أكثر من مليون زائر.
أرقام استغلها الكثير للحديث عن أزمة القراءة بالمغرب، الأمر الذي بعثني على كتابة هذا المقال، لمحاولة فهم وضعية القراءة والكتاب ببلادنا، وتحديد طبيعة الأزمة الموجودة.
ولكن قبل خوض هذا الغمار لابد من وضع فعل الكتابة والقراءة في إطار تاريخي سيسهل علينا معالجة الموضوع بقدر أكبر من الموضوعية، مستحضرين واقع بلدان متقدمة سبقت تجربتنا الحضارية بعقود.
يعود أصل الكتابة وبداياتها إلى بلاد ما بين النهرين في المدن السومرية على ضفاف نهري دجلة والفرات، منذ أكثر من 5000 عام. لكن ستعرف الكتابة تطورات تاريخية هائلة (رسومات الكهوف، النقوش على الأحجار، المخطوطات، الهيروغليفية، الأبجدية البدائية، الأبجدية المتطورة). وارتبطت تاريخيا بالتجارة وبتنظيم المجتمع، بحيث لا يمكن فصل الكتابة عن ميلاد الحضارة أبدا، فهي مَعلَمُها الأول.
ساعدت الكتابة الإنسان على تدوين أفكاره ومشاعره، ثم علومه ومعارفه التي راكمها في مختلف الحضارات (المصرية القديمة، اليمنية، الصينية، الإغريقية أو اليونانية، الفارسية، الرومانية، العربية الإسلامية، الأوروبية الغربية)، لنكون في المحصِّلة أمام تركيبٍ مزدَوج بين الكتابة والقراءة، يطوِّر أحدهما الآخر.
مع اختراع الورق من طرف الصينيين سيرتفع منسوب التدوين بشكل أكبر، ومن ثمة ستتسع دائرة المعارف والعلوم، ودائرة الضبط والتنظيم الذي تحتكره سلطة عليا أطلق عليها اسم "الدولة".
هذا التراكم الخلاق الذي أنجز بفعل الورق سيتبعه اختراع لا يقل أهمية عن الأول، وهو آلة الطباعة التي ستعطي زخما أكبر للكتابة والقراءة معا.
بالتالي أصبح الكتاب (المنتوج الخالص لفِعْلَي الكتابة والقراءة) أداةً في يد الدولة تحكُم به كسِجلات إدارية وقانونية مُلزِمة لجميع المواطنين، *وسلطة* رمزية تجدد بها شرعيتها السياسية من حين لآخر، حسب تطورات الصراع السياسي والاجتماعي (حروب داخلية وأهلية، حروب خارجية، استعمار، ثورات،..).
الملاحَظ أن القراءة لم تكن تتطور كفعل حضاري بعيدا عن تطور المجتمعات سياسيا واجتماعيا، لأن الكتاب لم يعرف أي انتشار واسع إلا بعد الثورة الصناعية في أوروبا وبروز المجتمعات الصناعية وحاجتها للصراع السلمي حول السلطة (أي الديمقراطية كما يشرحها علم السياسة).
كان الكتاب ومن ثمة الكتابة والقراءة جزءًا من أدوات إدارة الصراع والتداول السلمي حول السلطة، إذ لا تُتَصور ديمقراطية بدون كتابات، ولا حكم دون تراكم تاريخي في التجربة والخبرة مدوَّن أساساً في الكتب.
لأن الثقافة دائما هي عنوان السياسة، كان الكتاب وعاء هذه الثقافة الذي يختزل معارف الإنسان وعلومه وآدابه ومعاركه السياسية عبر التاريخ. لكن بروز المجتمعات المدنية والسياسية بعد الثورة الصناعية كمرادف للمجتمعات الصناعية، سيؤطر القراءة والكتابة بفعل تطور المدرسة وتعميم التعليم.
في المجتمعات المتقدمة لا يمكن فصل الإقبال على القراءة والكتابة عن تطور المجتمع المدني والسياسي، لأن المواطن يستعمِل الكتاب كأداة للإندماج في هذا المجتمع *والاستفادة* من الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية.
موضوعيةُ هذا الإقبال موجودة في مرحلة متقدمة من تطور مجتمعات بعينها. لأن القراءة والكتابة تكون تتويجا لمسار انطلق من المصنع ووصل للمدرسة ثم امتد للحزب والنقابة وانعكس في شكل أشكال من التعبير الأدبية والعلمية (كتاب أو رواية). والثابت في هذه الأشكال هو "التدوين".
إلا أن هذا المنسوب المرتفع من الإقبال على القراءة والكتابة في المجتمعات المتقدمة (دول أوروبا، أمريكا، روسيا والصين، ..) سيعرف تذبذبا ملحوظا مع ظهور وسائل تعبير أنجع في التواصل السياسي أساسا، أقصد اختراع المذياع والتلفاز وبعدها *الأنترنيت* ووسائل التواصل الاجتماعي.
سيصبح التأطير المباشر للجمهور عبر هذه الوسائل الحديثة، أهم من الكتاب الذي أضحى أداة مكَلِّفة وشاقة أمام تحدي الزمن السياسي بين الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة في هذه المجتمعات. إلا أن هذه التطورات لم تستطع إنهاء دور القراءة والكتابة كفعل حضاري استراتيجي اخترق عمق هذه المجتمعات، ومثّل لها الوسيلة الأنجع لنقل المعرفة والخبرة بين الأجيال، وأداةً للتواصل الثقافي بين فئات هذه المجتمعات، ضمانا لوحدَتها السياسية وشعورها القومي والإنساني الجَمعي.
لهذا اعتقد أنه من *الإنصاف* أن نحدِّد مرحلة التقدم التاريخي الذي يعيش فيه المجتمع المغربي، أولا، ثم بعد ذلك نَحكُم، هل هناك تناسب بين هذا التقدم ونسبة القراءة والكتاب التي وصلنا إليها كشعب أم لا ؟
إذا كنا خارج دائرة الإنتاج المباشرة (أي المجتمع الصناعي) وخارج دائرة التعليم المنتج (المدرسة الفاعلة في الإبداع والإنتاج المباشر) وخارج دائرة المجتمع المدني كما تطور في الغرب الأوروبي على الخصوص، لا يمكننا أن نجازف بالقول أننا متخلفون في مؤشر القراءة مقارنة مع الدول المتقدمة، فهذه مقارنة مجحفة، لأنه لا مقارنة حيث الاختلاف.
أكيد بهذا التحليل لا أحِيل القارئ الكريم إلى خيار الانهزامية، أبدا. بل أراهن على التشخيص الموضوعي لعلاقة المغاربة بالقراءة، مدخلا لتجاوز ما نعيشه من أزمة في هذا المستوى.
المغرب بصدد انتقال ديمقراطي فتي، يعيش ديمقراطية منسجمة مع مستواه الصناعي (أقصد الصناعة داخل دائرة التنمية المتعارف عليها علميا: المدرسة × الإبداع × الصناعة)، والنسيج الاجتماعي للمغرب تختلط فيه بنية القبيلة ببنية الدولة الحديثة (نعيش بين تأثير الولاء القبلي وتأثير الانتماء للفئة والطبقة).
الثقافة بالمغرب تتأثر بفكر المشرق بكل حمولته التاريخية المعروفة، وبفكر الغرب المأخوذ بشكل مجتزأ ومتشظي.
كلها عوامل تساهم في هذه الحصيلة المتواضعة من نسب القراءة والكتابة بالمغرب.
ختاما، أبسط بين للقارئ الكريم رقما دالاًّ للتأمل : مجموع الإصدارات المسجلة سنة 2024 بفرنسا بلغ حوالي 65500 عنوانا، بينما لم يتجاوز مجموع الإصدارات في نفس السنة بالمغرب 6838 عنوانا !!