بانقضاء شهر أكتوبر، يكون قد مر عامان على وصول حزب العدالة والتنمية إلى تدبير دفة غالبية المدن كبرى بالمغرب، طنجة وفاس والبيضاء ومراكش وأكادير ...، عقب تتويجه بأغلبية مقاعد مجالسها الترابية في الانتخابات المحلية لـ4 شتنبر 2015. في هذا الجزء نقف، عند الشروط التي جاءت بالإسلاميين إلى السلطة، والتي يعتبرون أنها إيجابية.
كان تتويج البجيدي بالأغلبية المطلقة في المدن الكبرى سابقة في تاريخه الانتخابي، واليوم، تتعالى أصوات كثيرة، حتى من داخل الحزب نفسه، مطالبة بحصيلة منتصف الولاية، وبتقييم للتجربة، في حين ذهبت أخرى أبعد من ذلك، وحسمت حكمها بالقول "لم يأت الحزب بأي لمسة مميزة، بل ساءت أوضاع مدنه".
واحد من أبرز تلك الأصوات، طارق القباج، العمدة الاتحادي السابق لأكادير، إذ أبدى في حديث مع "تيل كيل" استياء عميقا من أداء حلفائه في آخر ولاية له (2009-2015) منذ انفرادهم بالتدبير قبل 24 شهرا. وبينما يظهر عبد الصمد الحيكر، نائب عمدة العاصمة الاقتصادية اعتزازا بحصيلة المجلس، ويعترف محمد أمحجور، نائب عمدة طنجة، بوجود نقائص وأزمة مالية بنيوية، يبرز السؤال: أي صورة "موضوعية" يمكن رسمها اليوم عن حصيلة "بيجيدي" في تدبير المدن الكبرى للمغرب؟
روابط الجزء الثاني والثالث:
2-أزمة مالية في البوغاز
3- الأزمي يتخبط وسط تركة شباط
4- تنفيذ المشاريع الملكية بالبيضاء
شروط محفزة
يستدعي تقييم تدبير الجماعات الترابية بالمغرب، الوقوف عند الشروط والظروف السياسية التي تشتغل في إطارها المكاتب المسيرة، وفي هذا الصدد، كان لافتا، منذ ظهور نتائج الانتخابات المحلية لـ2015، أن حزب العدالة والتنمية، محظوظ جدا، إذ حقق اكتساحا في صناديق الاقتراع، مكنه من الأغلبية المطلقة في المدن الرئيسية، وجعل يده طويلة جدا في تشكيل الأغلبيات وهيكلة المكاتب المسيرة، واتخاذ القرارات وتمريرها في الدورات.
وبينما تشبث الحزب منذ اليوم الأول بـعدم تفويت رئاسة الجماعات التي حصد فيها الأغلبية المطلقة، إلى أي كان، حرص أيضا، على تحييد عدد من الأحزاب، سيما التي كان يرتبط معها في إطار تحالف أغلبية حكومة عبد الإله بنكيران، ونيل دعمها لتجاربه في التسيير وإشراكها في المكاتب بعدد من المناصب، وبلغ الأمر في بعض المدن حد تحول المعارضة إلى إبرة وسط كومة من القش.
وتبعا لذلك، تمكن الحزب بالبيضاء، مثلا، من بسط يده على المسؤوليات في المكتب المسير لمجلس المدينة، إذ حاز الرئاسة في شخص عبد العزيز العماري، الوزير السابق للعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، بفضل أصوات 75 عضوا باسم حزبه في المجلس، وأصوات منتخبي التجمع الوطني للأحرار (23 مقعد)، والاتحاد الدستوري (19 مقعد)، والتقدم والاشتراكية (3 مقاعد)، وأصوات منتخبي أحزاب أخرى، ليكون مجموع المساندين 124 عضوا في المجلس من أصل 147.
وفي طنجة، تكرر المشهد بحصول الحزب على الأغلبية في مجلس المدينة بـ49 عضوا من أصل 85 يتكون منها المجلس، وفيما اقتسمت بقية الأحزاب المقاعد الـ36 المتبقية، تمكن الحزب من نيل دعم حزا الاستقلال (مقعدان)، والاتحاد الدستوري (8 مقاعد)، وأعضاء لائحة غير منتمية فازت بخمس مقاعد، فانتخب محمد البشير العبدلاوي، رئيسا، بـ64 صوتا، في حين توجه مستشارو الأصالة والمعاصرة (13 مقعد) والتجمع الوطني للأحرار إلى المعارضة (8 مقاعد).
وبعد مرور سنتين، لا ينفي عبد الصمد حيكر، الكاتب الجهوي للحزب بالعاصمة الاقتصادية والنائب الأول لعمدتها، في حديث مع "تيل كيل"، أنه خلال سنتين من التدبير، لم يواجه مكتب مجلس مدينة البيضاء، مثلا، صعوبات كثيرة في تمرير قراراته، بقوله: "منذ اليوم الأول، اعتبرنا فوزنا بالأغلبية المطلقة، مجرد عامل مساعد، وتفادينا الانفراد بالتسيير، فانفتحنا على أحزاب الأغلبية في الحكومة السابقة، فأشركنا التجمع الوطني للأحرار والتقدم والاشتراكية في المكتب، وبعد سنتين، حوالي 98 في المائة من القرارات تم اعتمادها في دورات مجلس المدينة بالإجماع من قبل كافة الفرق الممثلة فيه".
وإذا كان الاكتساح قد تحقق رغم أن النظام الانتخابي المنظم لشروط اللعبة بالمغرب لم يتغير، فإنه، من جهة أخرى، جاء في ظل إصلاحات للقوانين التنظيمية للجماعات الترابية، تنزيلا لمكاسب المراجعة الدستورية لـ2011، أقرت صلاحيات جديدة وواسعة للجماعة الترابية، من قبيل مبدأ التدبير الحر للجماعة، وحسنت الوضعية الاعتبارية والمادية للمنتخب، وحدت من الوصاية المطلقة لوزارة الداخلية بتحويلها إلى مجرد "مراقبة إدارية"، وجعل السلطة القضائية (المحكمة الإدارية) الحكم النهائي النزاعات بين السلطة المعينة والمنتخبة.
الأزمي: انتخابات 2015 توجت بحصول الحزب على أغلبيات مريحة في المدن التي يسيرها، تسمح له بتطبيق تلك القوانين"
وكانت تفعيل مضمون القوانين التنظمية الجديدة، من أبرز وعود البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية في 2015، إذ اعتبر في ديباجته أن المنظومة القانونية الجديدة للجماعات "مكنت من إرساء جماعات ترابية قوية وذات اختصاصات وإمكانيات حقيقية ومعتبرة"، و"وفرت ضمانات بناء جهات وجماعات باختصاصات تنموية فعلية وواسعة"، ثم أكد الحزب أنه يعتبر "أن ثمار وآثار تلك المنظومة القانونية، يتوقف على انتخاب وفرز مؤسسات جهوية وجماعية قوية تحظى بمشروعية ديمقراطية شعبية، على أساس برنامج تعاقدي مع المواطنين، ووفق التزامات واضحة".
أكثر من ذلك، حرص الحزب بعدما وصل إلى تدبير المدن الرئيسية للمغرب، ومعها جهتا الرباط سلا القنيطرة، ودرعة تافيلالت، وجماعات ترابية أخرى (180 جماعة على الصعيد الوطني عوض 50 بعد انتخابات 2009)، على تأسيس إطار تنظيمي لمواكبة وتأطير منتخبيه ومراقبتهم، تحت مسمى "مؤسسة منتخبي حزب العدالة والتنمية"، آلت رئاستها إلى إدريس الأزمي الإدريسي، عمدة فاس، وأسندت إدارتها العامة إلى سعيد خيرون، الرئيس السابق لجماعة القصر الكبير، وتتوفر على مجلس إداري برئاسة الأمين العام، ومكتب تنفيذي، يضم رؤساء بعض الجماعات، ورئيس جمعية المستشارين الجماعيين للحزب.
ويؤكد إدريس الأزمي الإدريسي، في اتصال أجرته معه "تيل كيل"، إيجابية ذلك السياق العام الذي تسلم فيه منتخبو الحزب مفاتيح التدبير، فقال: "صحيح جدا أن الانتخابات الجماعية لـ2015 جاءت في سياق جديد، يتمثل في مستجدات دستور 2011 بخصوص الجهوية الموسعة والجماعات الترابية، والتي أفرزت قوانين تنظيمية للجماعات أقرت مبدأ التدبير الحر وإضافات نوعية في الاختصاصات، وتوجت بحصول الحزب على أغلبيات مريحة في المدن التي يسيرها، تسمح له بتطبيق تلك القوانين".
يبرز إذن، أن حزب العدالة والتنمية تسلم مفاتيح تدبير المدن الرئيسية في المغرب، وهو يتوفر على أغلبيات مريحة، وفي ظل ترسانة قانونية جديدة وسعت من صلاحيات الجماعات الترابية، ما يعني أن منتخبيه حازوا "اليد الطولى" في تنفيذ برامجهم وتصوراتهم أمام معارضة ضعيفة الوزن، عدديا على الأقل، فكيف يقيم اليوم الخصوم السياسيون، والمدبرون السابقون، حصيلة الإسلاميين، وماهي الصورة التي يرسمها هؤلاء عن أدائهم في مدن من قبيل أكادير والبيضاء وطنجة وفاس ؟
القباج: لموجودون في التسيير اليوم، مافاهمين والو، ولا تصورات إسترتيجية لديهم، ومنشغلون بالمأدبات وجلسات الشاي والبرلمان".
"عفاريت" في أكادير
يبدي معارضون ومسيرون سابقون بالمدن الخمس، استياء من أداء منتخبي حزب العدالة والتنمية، وطارق القباج، الرئيس السابق للجماعة الترابية (2003-2015)، الذي قدم استقالته من عضويته فيها بعد أسابيع قليلة من فقدانه الرئاسة ووضعه في المعارضة من قبل اكتساح "بيجيدي" في اقتراع 4 شتنبر 2015 (33 مقعد من أصل 65)، واحد من الذين يقدمون نقدا قاسيا لسنتين من تسيير الإسلاميين.
وفي نظر العمدة السابق، الذي قبل التخلي عن تحفظه والحديث إلى "تيل كيل"، تعيش المدينة "تراجعا جذريا" بسبب أسلوب وقرارات أعضاء المكتب المسير الحالي للجماعة، وكلهم من العدالة والتنمية، الذين ليسوا إلا "عفاريت يشتغلون مع تماسيح على تحويل أكادير إلى مدينة اسمنتية"، يضيف العمدة الاتحادي السابق، مستعيرا القاموس المستعمل من قبل عبد الإله بنكيران، زعيم "بيجيدي" وصف خصومه.
"خلال فترة رئاستي واجهت صعوبات كثيرة، ولكن في النهاية، نجحت في المجمل، وهو ما يشهد عليه الواقع في أكادير وما أرسيناه من المشاريع الكبرى أو من مرافق القرب، أو في إطار الثقافة، لكن للأسف الجديد، نرى اليوم أن كل شيء توقف، علما أننا تركنا وراءنا دراسات جاهزة لمشاريع كبيرة ومهيكلة، من المفترض أن تطبق في هذه الولاية"، يقول القباج مضيفا، "إلا أن الموجودين في التسيير اليوم، مافاهمين والو، ولا تصورات إسترتيجية لديهم، ومنشغلون بالمأدبات وجلسات الشاي والبرلمان".
ويعطي العمدة السابق لأكادير، المثال بمشروع "الباص-واي" الذي يسميه البعض "طرامواي العجلات"، إذ اقتبس المجلس السابق فكرته في إطار التوأمة التي تجمع أكادير مع مدينة "نانت" الفرنسية، ويقتضي إقامة شبكة للنقل الحضري بالحافلات عالية الجودة وممرات خاصة بها، فبلغ المشروع، حسب القباج "إنهاء كافة المشاورات حوله مع وزارة الداخلية، وحسم طريقة التمويل بلقاءات مع البنك الدولي والوكالة الفرنسية للتنمية".
وفيما يؤكد المتحدث أن مشروع "النقل الحضري الحداثي"، كانت ستستفيد منه أكادير الكبير، وليس النفوذ الترابي لجماعة عاصمة سوس فقط، "بحكم أنني كنت أشتغل وفق تصور إستراتيجي لمستقبل المنطقة برمتها، وبوصف أكادير المركز/القاطرة للمنطقة"، يعطي المثال أيضا بالمخطط المديري للتدبير الحضري والتهيئة "أكادير في أفق 2030"، الذي "يعد دراسة أساسية شاركت فيها مختلف الجماعات الترابية للمنطقة، ويعطي صورة إستراتجية لكيف نريد أكادير الكبير في المستقبل".
وبالنسبة إلى القباج، "كانت أبرز جريمة ارتكبها الرئيس الجديد للجماعة في حق المخطط، ترخيصه الشفوي لمشروع أكادير-لاند، ومسارعة صاحب المشروع إلى بدأ أشغال إقامته بتخريب الموقع وانتشال عشرات أشجار الأركان، رغم علم الرئيس أن مخطط 2030 ينص على أن يظل ذلك الموقع رئة خضراء للمدينة ومنطقة طبيعية سيما أنه مهدد بالزلازل، وهو ما استحضرته الوكالة الحضرية وسارعت إلى الاعتراض على المشروع ووقف الجريمة التي شرع في تنفيذها مباشرة بعد أشغال قمة الأمم المتحدة للمناخ بمراكش (كوب22)".
ويثير العمدة السابق لأكادير أيضا مشروعا يقضي بتحويل 250 هكتارا من الأراضي المحيطة بملعب أكادير الكبير (أدرار)، إلى ملاعب رياضية، يمكن أن تتخذ معسكرات لتداريب الفرق العالمية الباحثة عن مناطق دافئة، ما سيساهم في تنشيط القطاع الفندقي، لكنه تفاجأ قبل أيام بتراجع الإسلاميين عنه، واستعدادهم لتفويت سبع هكتارات لإحدى الشركات لتقيم في المنطقة أسواقا ممتازة (سوبير-مارشي)، فيحسم موقفه من التجربة الحالية بالقول: "من يرتكب تلك الأغلاط مجرم في نظري، لقد ذهب القباج وجاءت التماسيح والعفاريت لتحول أكادير إلى مجرد مدينة اسمنتية".
وعلى الطرف الآخر، لا جواب أو تعليق عن ملاحظات واتهامات طارق القباج، الذي قال إنه استقال من منصب مسشتار معارض "حفاظا على كرامتي"، إذ فشلت محاولات "تيل كيل" في التواصل مع صالح المالوكي، رئيس الجماعة الترابية أكادير، رغم ترك رسائل قصيرة في هاتفه، أما نائبه الأول محمد بكيري، فقد تحجج بانشغاله الكبير، وبعدما وعد بإيجاد وقت ليجيب عن أسئلة مكتوبة، قال في اليوم الموالي، إنه اطلع عليها، وتبين له أن الجواب عنها يحتاج وقت لاستجماع المعطيات، وبسبب انشغاله الكبير، لابد من الانتظار.
أما أرشيف أنشطة المجلس الجماعي، فيشير بخصوص مشروع "الباص-واي"، أن المسيرين الجدد، لم يضعوه بشكل نهائي في الرف، إذ قاموا في الدورة العادية لفبراير 2016، بالمصادقة على تجديد اتفاقية الشراكة المتعلقة بالمشروع مع مجلس مدينة "نانت ميتروبول" الفرنسية، لخمس سنوات أخرى تنتهي في 2021، ونفذ ذلك في حفل حضره الشريك الفرنسي في 19 ماي 2016، لكن نص الاتفاقية لا يقدم أفقا معينا لتاريخ بدء تنفيذ المشروع، وتنظم مقتضياتها في المجل، تقديم الطرف الفرنسي المشورة وتسهيل التعرف على تجربته الخاصة بـ"الباص-واي".
بخصوص ما يصفه القباج بـ"جريمة أكادير-لاند"، فآخر موقف للجماعة الترابية لأكادير، بعد توقيف إنجازه، هو الدفاع عنه والتشبث به، إذ قال الرئيس صالح المالوكي، في بلاغ خلال فبراير الماضي، إنه "يستغرب تراجع بعض الفرقاء عن موافقتهم المبدئية على المشروع الذي وقعوا عليه خلال انعقاد لجنة استثناءات التعمير وغيرها من اللجان"، مشتكيا "تأثر مناخ الاستثمار بمدينة أكادير بشكل كبير من خلال هذه الواقعة"، أما ترخيصه للمشروع في منطقة زلزالية، فاعتبر أن "كثيرا من المشاريع تقام في مناطق زلزالية داخل الوطن أو خارجه، شريطة احترام مواصفات تقنية خاصة تضمن لها السلامة والاستمرار".
ولا تخف بعض التقارير والارتسامات، أن أكادير تعيش منذ السنتين الأخيرتين، ركودا اقتصاديا وتهميشا تنمويا، وهو ما فجر احتقانا تجسد في تكتل المستائين ضمن المبادرة المدنية لإنقاذ أكادير، التي تحظى صفحتها الرسمية في شبكة التواصل الاجتماعي بإعجاب 13 ألف شخص، ونظمت سلسلة احتجاجات من أجل "لفت الانتباه إلى ما تعانيه المدينة من اقصاء وتهميش ممنهج"، وتعتبر أن "المدينة تعيش حالة من العزلة والركود والاحتقان الاقتصادي والاجتماعي والمؤسساتي، ما يؤثر سلبا على السلم الاجتماعي بالمنطقة"، وتشكو "إلغاء مجموعة من المشاريع وترحيلها من المدينة".