وسط أجواء إقليمية متوترة، وتغيرات في المواقف الدولية تجاه ملف الصحراء المغربية، شهدت قاعة مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، يوم الاثنين الماضي، إحاطة جديدة من المبعوث الشخصي للأمين العام إلى الصحراء، ستيفان دي ميستورا، شكلت منعطفا دبلوماسيا لافتا في مسار هذا النزاع الممتد.
وبدا جليا، في هذه الإحاطة، أن الأمم المتحدة تميل، تدريجيا، نحو تبني مقاربة أكثر واقعية، تستند على مبادرة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب، منذ عام 2007، باعتبارها قاعدة تفاوضية جدية ومدعومة دوليا، لاسيما بعد تجدد التأكيد الأمريكي على أنها الإطار الوحيد الممكن للحل.
ومع تصاعد المؤشرات على انخراط أكثر صرامة من قبل القوى الكبرى؛ وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا، وبروز ملامح تحولات في خطاب دي ميستورا نفسه، عاد النقاش حول فرص استئناف العملية السياسية وإمكانية تجاوز حالة الجمود التي تطبع هذا الملف منذ سنوات. فهل تشكل الإحاطة الأخيرة بداية مرحلة جديدة في تعاطي الأمم المتحدة مع الملف؟ وما مدى تأثير تقارب المملكة وأمريكا في ترجيح كفة الطرح المغربي؟ وهل نحن أمام منعطف قد يفرض على الأطراف الأخرى، وخصوصا الجزائر، إعادة التموضع إزاء مسار المفاوضات؟
الواقعية تفرض نفسها
وفي قراءة لأبعاد الإحاطة الأممية الأخيرة، وسيناريوهات ما بعد "خارطة الطريق" الجديدة التي تلوّح بها الوساطة الأممية، في ضوء ما يجري خلف الكواليس من تفاهمات وتحركات دبلوماسية لافتة، سجل إبراهيم بلالي اسويح، المحلل السياسي، وعضو المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، في تصريح لـ"تيلكيل عربي"، اليوم الخميس، أن إشارة دي ميستورا إلى ضرورة الخوض في مزيد من التفاصيل المتعلقة بمبادرة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب، عام 2007، تمثل تطورا نوعيا في مسار الوساطة الأممية، موضحا أن هذه الإشارة ليست مجرد تذكير بمبادرة قائمة، بل تدخل ضمن التصور الجديد الذي يعتزم المبعوث الأممي اعتماده كخارطة طريق للخروج من حالة الجمود التي تطبع هذا الملف منذ توقف المفاوضات، عام 2020.
واعتبر اسويح أن هذا التوجه يعكس إدراكا متزايدا لدى دي ميستورا بفشل كافة الخيارات السابقة، بما في ذلك خيار التقسيم الذي سبق وأشار إليه في تقريره أمام مجلس الأمن، خلال شهر أكتوبر الماضي؛ وهو ما دفع المبعوث الأممي إلى مراجعة مقاربته، تماشيا مع طبيعة المعطيات السياسية الراهنة، والتي تتجه، أكثر فأكثر، نحو الحلول الواقعية.
وتُعزز هذه المقاربة، وفقا للمحلل السياسي، بالزخم الذي اكتسبته المبادرة المغربية خلال الأشهر الأخيرة؛ حيث باتت تلقى دعما صريحا من قوى دائمة العضوية داخل مجلس الأمن، على رأسها الولايات المتحدة، وفرنسا، وبريطانيا، إلى جانب دعم إقليمي متزايد من إسبانيا، بصفتها المستعمر السابق للإقليم، مبرزا أن هذا التحول لم يكن معزولا عن السياقات السياسية الدولية، بل تأثر، بشكل مباشر، بتسارع الأحداث والاصطفاف المتنامي خلف الطرح المغربي، الذي بات يُنظر إليه بوصفه الحل الأكثر نجاعة واستقرارا.
وشدد اسويح على أن الموقف الأمريكي الأخير، الذي دعت من خلاله واشنطن الأطراف إلى استئناف المفاوضات دون تأخير على أساس مبادرة الحكم الذاتي، كان له وقع واضح على دينامية الملف. كما أن تصريحات الخارجية الأمريكية، التي اعتبرت الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية "الحل الوحيد ذو جدوى"، تعكس توافقا كبيرا مع رؤية دي ميستورا للحل السياسي في المرحلة الراهنة.
وتابع المتحدث نفسه أن مواقف القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، باتت تشكل إطارا ضاغطا يعيد توجيه مسار العملية السياسية برمّته، ويضع الأطراف الأخرى أمام مسؤوليات جديدة، موضحا أنه في السياق الدولي الحالي، لم يعد هناك متسع للمناورة أو التعنت؛ لأن التمترس خلف مواقف متصلبة سيكون بمثابة مغامرة غير محسوبة العواقب، خاصة في ظل شبه الإجماع الدولي على أن الحكم الذاتي، بصيغته المغربية، هو الخيار الواقعي الوحيد القابل للتطبيق، بما ينسجم مع قرارات مجلس الأمن، وآخرها القرار 2756 الصادر في أكتوبر الماضي.
ثوابت الرباط ومحدّدات السيادة
وأكد اسويح أن الحديث عن "حكم ذاتي حقيقي"، كما ورد في الإحاطة الأخيرة للمبعوث الأممي، لا يمكن فصله عن السياق الأشمل الذي يحكم تعاطي المغرب مع النزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية. فالموقف المغربي، منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، ظل واضحا ومتماسكا وقائما على مقاربة شاملة تُراعي خصوصيات النزاع ميدانيا ودبلوماسيا، وتستند إلى محددات كبرى تُشكل الإطار المرجعي لأي تسوية ممكنة.
وفي هذا السياق، أشار المحلل السياسي إلى أن مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب، عام 2007، جاءت استجابة مباشرة لدعوة أممية، عقب فشل كل خطط التسوية السابقة التي تناقضت في مرجعياتها مع المصالح العليا للمملكة، معتبرا أن المبادرة المغربية ليست مجرد اقتراح تفاوضي، بل تعبير سيادي عن رؤية متكاملة للحل، تأسست على معطيات واقعية وتاريخية، وجاءت لتؤكد رفض المغرب لأي صيغة تمس بوحدته الترابية.
وذكّر اسويح بتصريح وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، العام الماضي، حين شدّد على أن السيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية "خط أحمر"، وأن المبادرة المغربية للحكم الذاتي تمثل "نقطة وصول وليس نقطة انطلاق"، في إشارة واضحة إلى أن ما هو مطروح ليس موضوعا للتفاوض من حيث المبدأ، بل إطارا لتجسيد حل نهائي تحت مظلة السيادة الكاملة.
كما استحضر، في هذا السياق، رفض المغرب، سابقا، لمقترح المبعوث الأممي السابق، جيمس بيكر، الذي اقترح حكما ذاتيا لمدة خمس سنوات يعقبه تنظيم استفتاء؛ وذلك نظرا إلى كونه يمنح سيادة مؤقتة لا تتماشى مع الثوابت الوطنية، وهو ما دفع مجلس الأمن فيما بعد إلى تبني القرار رقم 1469، عام 2003، الذي مثّل، عمليا، بداية التخلي عن الحلول السابقة التي أثبت الواقع عدم قابليتها للتطبيق.
واعتبر المحلل السياسي أن هذا المسار أفضى، في نهاية المطاف، إلى بلورة المبادرة المغربية للحكم الذاتي، التي تستمد مشروعيتها من قرارات مجلس الأمن، والدعم الدولي المتنامي لها؛ حيث باتت تشكل، اليوم، أرضية تفاوضية معترفا بها على المستوى الأممي، مشيرا إلى أن هذا الزخم لم يكن ليتحقق لولا تطور الخطاب السياسي والدبلوماسي المغربي، ومتانة المرجعية التي تنطلق منها المبادرة، والتي تعتبرها الأمم المتحدة الإطار الممكن للتوصل إلى حل سياسي واقعي ودائم ومقبول من الأطراف.
وأضاف اسويح أن هذا التوجه، الذي تبنّاه دي ميستورا، مؤخرا، ينسجم مع قناعة تتسع دوليا، مفادها أن الطرح المغربي هو الأكثر توازنا ووضوحا؛ ما يعزّز الموقع التفاوضي للمغرب، ويكرّس، في الوقت ذاته، سيادته الكاملة على أقاليمه الجنوبية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من ترابه الوطني.
واشنطن تُعيد تنشيط الوساطة
واعتبر المحلل السياسي أن السياق الحالي للوساطة الأممية بات يتأثر، بشكل مباشر، بالموقف الأمريكي المتجدد، وهو ما انعكس، بوضوح، في الإحاطة الأخيرة للمبعوث الأممي، مشيرا إلى أن اللقاء الذي جمع كاتب الدولة في الخارجية الأمريكية، ماركو روبيو، بنظيره المغربي، ناصر بوريطة، شكّل نقطة تحوّل مهمة؛ إذ عكست مخرجاته بداية فعلية لتحريك المياه الراكدة في مسار التسوية، عبر تبني واشنطن لغة دبلوماسية أكثر صرامة وجدية.
وتابع اسويح أن التعبيرات التي استخدمتها الإدارة الأمريكية؛ مثل "الحكم الذاتي هو الإطار الوحيد للتفاوض"، و"العزم على تسهيل تحقيق تقدم في الملف"، تؤكد تمسك واشنطن بمبادرة الحكم الذاتي كأساس واقعي للحل. كما أن إصرار الإدارة الجديدة على أن "الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية" هو الحل الوحيد ذو الجدوى ينسجم مع الخط السياسي الذي يتبناه دي ميستورا في الوقت الراهن، والذي يتمثل في البحث عن تسوية مستندة إلى مبادئ الواقعية والعملية.
كما أبرز أن هذا التوجه الجديد لا يتعارض مع المسار التفاوضي، بل يشكل جزءا منه، خصوصا أن المبادرة المغربية المقدمة عام 2007 صيغت بعناية لتأخذ في الحسبان خصوصية هذا النزاع الإقليمي، وتضمّنت في فقراتها الخمس والثلاثين إشارات واضحة إلى الخلفيات السياسية والقانونية والتاريخية، بما في ذلك المرجعية الأممية الممثّلة في القرارين 1514 و1541 الصادرين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وأكد المتحدث نفسه أن أغلب ما تضمنته المبادرة يجعل منها أرضية توافقية صلبة لمعالجة النقاط الخلافية، مشيرا إلى أن المغرب عمل، منذ تقديم المبادرة، على تجسيد مضامينها عمليا، عبر إطلاق مسار الجهوية المتقدمة انطلاقا من الأقاليم الجنوبية، في خطوة تُعد الترجمة المؤسسية الأولى لفكرة الحكم الذاتي.
وأبرز اسويح أن هذا المسار الواقعي الذي تتبناه القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، بدأ يفرض نفسه كخيار أممي مرجّح لإعادة إحياء العملية السياسية المتوقفة، مسجلا أن هذا التوجه، الذي بات يلقى قبولا متزايدا لدى دي ميستورا، يُواجه برفض مزدوج من قبل الجزائر وجبهة البوليساريو الوهمية. لكن استمرار هذا الرفض، في ظل التوازنات الحالية، قد يؤدي إلى فرض حل "بواقع القوة"، أو عبر آلية دولية جديدة تُجبر الأطراف على الانخراط في التسوية وفق مخرجات الوساطة الأممية.
الجزائر تحت المجهر الأممي
وأكد المحلل السياسي أن التحذيرات التي تضمّنتها إحاطة المبعوث الأممي الأخيرة بشأن التوتر القائم بين المغرب والجزائر، واحتمالات تطوره إلى صدام عسكري، ليست جديدة، لكنها، هذه المرة، تحمل دلالة أوضح حول طبيعة الدور الجزائري في النزاع، موضحا أن الإشارة إلى خطر اندلاع حرب بين الجارين، في هذا السياق، تُفهم على أنها إقرار أممي بأن الجزائر طرف رئيسي في هذا النزاع الإقليمي، وليست مجرد طرف داعم، كما تدّعي.
وأشار اسويح إلى أن هذا المعطى من شأنه أن يُعيد طرح مسألة مشاركة الجزائر في المفاوضات، بصفتها طرفا مباشرا؛ الأمر الذي دأبت الجزائر على رفضه في الجولات السابقة، خاصة تلك التي عُقدت على طاولة مستديرة بمشاركة جميع المعنيين.
وتابع أن سباق التسلح المتصاعد بين البلدين لا يمكن قراءته بمعزل عن حسابات جيواستراتيجية أوسع ترتبط بتنافس القوى الإقليمية والدولية في منطقة الساحل والصحراء، مبرزا أن العلاقات الدفاعية والأمنية التي تجمع المغرب بالولايات المتحدة وفرنسا، فضلا عن الشراكة المتنامية مع إسبانيا، كلها تُفسَّر ضمن سعي هذه القوى إلى تعزيز تموقعها الاستراتيجي في شمال وغرب إفريقيا.
واستحضر اسويح، ضمن هذا الإطار، ما يتم تداوله حول إمكانية نقل القاعدة العسكرية الإسبانية "روتا" إلى المغرب، معتبرا أن مجرد تداول هذه الفرضية يعكس حجم التحولات الجيوسياسية الجارية في المنطقة، ومدى ثقة الشركاء الغربيين في استقرار المغرب وموقعه الجيوسياسي الحيوي.
كما اعتبر أن تحذير دي ميستورا من مخاطر التصعيد في المنطقة يتقاطع مع الدعوات الأمريكية الأخيرة بضرورة انخراط جميع الأطراف، وبشكل جدي، في المفاوضات، وهو ما يُفهم كدعوة ملحّة إلى مجلس الأمن والدول الكبرى لتحمّل مسؤولياتها كاملة في حسم هذا النزاع الإقليمي، قبل أن تنزلق المنطقة نحو مواجهة مفتوحة، في وقت تشهد فيه المنطقة اهتماما متزايدا من قبل القوى الدولية الساعية إلى إعادة تموقعها في جنوب المحيط الأطلسي.
نافذة الحسم تقترب
وقال المحلل السياسي إن حديث المبعوث الأممي عن احتمال التوصل إلى حل، خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، يندرج ضمن خانة التفاؤل المشروط، ويعكس إدراكا متزايدا لنضج الشروط الموضوعية التي قد تسمح بإعادة إطلاق العملية السياسية المتعثرة منذ أكثر من خمس سنوات.
وسجل اسويح أن هذا التفاؤل لا يأتي من فراغ، بل يستند إلى سلسلة من اللقاءات التي عقدها دي ميستورا، مؤخرا، مع مختلف الأطراف المعنية، وما لمسه من تغير في مواقف بعض القوى المؤثرة، بالإضافة إلى المناخ العام الذي بات أكثر ميلا لتبني مقاربة واقعية، مرجّحا أن هذا المناخ فرض على الجزائر التعاطي، بشكل أكثر انخراطا، مع جهود الوساطة الأممية، ولو بحدها الأدنى، في ظل تصاعد الضغوط الدولية.
واستحضر المتحدث نفسه، في هذا السياق، اللقاء الذي جمع دي ميستورا بالمسؤولة الأمريكية في الخارجية، ليزا كينا، ثم لقاء وزير الخارجية، ناصر بوريطة، مع مستشار الأمن القومي الأمريكي، مايك والتز، معتبرا أن هذه التحركات تشير، بوضوح، إلى جدية متزايدة في الرؤية الأمريكية بشأن ترتيب الأرضية المناسبة لحسم هذا النزاع الإقليمي.
وأضاف أن تصريحات السفير عمر هلال، الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، عكست هذه الدينامية الجديدة؛ إذ أوحت تصريحاته الأخيرة بقرب التوصل إلى تسوية نهائية، مستندة إلى ما يدور خلف الكواليس من مشاورات وتوافقات دبلوماسية قد تعجّل بإغلاق هذا الملف المزمن.
واختتم اسويح تحليله بالتأكيد على أن تطورات الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة، ليس فقط في اختبار صدقية الأطراف، بل أيضا في قياس مدى استعداد القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لدفع الملف نحو مخرجات واقعية تُنهي حالة الاستنزاف السياسي والدبلوماسي التي رافقت النزاع لعقود.