ملف الصحراء المغربية.. من نضج المبادرة المغربية إلى اختبار جدية الأمم المتحدة

تيل كيل عربي

بقلم: عائشة ادويهي

في خضم التطورات المتسارعة التي يشهدها ملف الصحراء المغربية، تبدو ملامح التحول جلية في التعاطي الدولي مع هذا النزاع، حيث تتجه بوصلة المجتمع الدولي أكثر فأكثر نحو مقاربة جديدة تتجاوز منطق "إدارة الأزمة" إلى أفق "تسويتها" بشكل فعلي ومستدام. هذا التحول لا ينفصل عن الدينامية الدبلوماسية التي تقودها المملكة المغربية، والتي نجحت في إعادة صياغة موازين التأثير والاقتناع بمبادرتها الجدية للحكم الذاتي. غير أن الإحاطة الأخيرة للمبعوث الأممي ستافان دي ميستورا، ورغم السياق الإيجابي العام، تفتح الباب أمام تساؤلات عميقة بشأن حدود وفعالية الوساطة الأممية، بل وحيادها، في ظل متغيرات دولية تؤشر إلى تراجع دور الفاعلين التقليديين، وصعود قوى جديدة باتت تتحكم عمليًا في مفاتيح الحل وتعيد رسم خارطة النفوذ في هذا الملف الشائك.

المبادرة المغربية: من مقترح تفاوضي إلى مرجعية دولية للحل

من الواضح أن مبادرة الحكم الذاتي التي طرحتها المملكة المغربية سنة 2007 لم تعد مجرد مقترح ضمن مقترحات، بل تحولت تدريجيًا إلى مرجعية واقعية ومتقدمة في أفق تسوية نهائية للنزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية؛ فقد نجحت المملكة المغربية، بفضل تماسك مبادرتها ومصداقيتها الميدانية، في ترسيخ الحكم الذاتي كمرجعية دولية متنامية لحل النزاع؛ ومع اعترافات متوالية من قِبل قوى دولية كبرى، تتقدمها الولايات المتحدة وفرنسا، وتزايد عدد القنصليات في الأقاليم الجنوبية، فقد بات من الواضح أن المقترح المغربي لم يعد مجرد خيار من بين أخرى، بل الخيار الوحيد القائم على المصداقية والشرعية الدولية.

هذا التحول لم يأت من فراغ، بل هو نتاج تماسك داخلي ودينامية دبلوماسية متصاعدة، جعلت من المقترح المغربي الخيار الأوحد الذي يحظى بتقدير متزايد على الساحة الدولية. فالاعتراف الأمريكي بالمبادرة، وتأكيد الإدارة الحالية على اعتبارها "الحل الواقعي الوحيد"، إلى جانب المقترح القاضي بتصنيف البوليساريو ضمن الكيانات الإرهابية، يعكس تحولًا نوعيًا في مقاربة واشنطن، ويعزز موقع المغرب كشريك موثوق في استقرار المنطقة.

بالموازاة، يواكب هذا الزخم الخارجي مجهود داخلي لا يقل أهمية، يقوم على تعزيز المصداقية الميدانية للمبادرة من خلال إطلاق مشاريع تنموية كبرى، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية والاقتصادية في الأقاليم الجنوبية بفتح آفاق أوسع أمام الشباب والنساء للمشاركة الفعلية في تدبير الشأن المحلي بما يكرّس نموذجًا جهويًا ديمقراطيًا تحت السيادة الوطنية. وبين الاعتراف الدولي المتصاعد والتنزيل الواقعي المتدرج، تبرز المبادرة المغربية كإطار جامع ومتين، يعيد رسم معالم الحل على قاعدة الشرعية، الواقعية، والاستقرار.

هذا التراكم التفاوضي والدبلوماسي لا يعكس فقط عمق المبادرة المغربية، بل يكشف أيضًا هشاشة الأطروحة الانفصالية، التي تفتقر إلى أي أفق عملي، خاصة في ظل تصاعد الأصوات الدولية التي تعتبر البوليساريو كيانًا غير شرعي، وأحيانًا مهددًا للاستقرار الإقليمي.

إحاطة دي ميستورا: نهاية حياد قديم وبداية واقع جديد

رغم الجهود التي يبذلها دي ميستورا، إلا أن إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن لم ترقَ إلى تطلعات الفاعلين المتابعين للمسار السياسي، بل أثارت الكثير من التساؤلات، فقد أظهرت إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن أن الوساطة الأممية بصيغتها التقليدية بدأت تفقد بريقها وتأثيرها في معالجة النزاع حول الصحراء المغربية. كما كشفت عن محدودية الوساطة الكلاسيكية القائمة على الحياد الشكلي وإعادة إنتاج مقاربات متجاوزة، في وقت تشهد فيه القضية تحولات عميقة في المواقف الدولية.

في هذا السياق، برزت العواصم المؤثرة، وعلى رأسها واشنطن وباريس، كجهات فاعلة في صياغة الحل، معلنة دعمها الصريح للمبادرة المغربية للحكم الذاتي باعتبارها الإطار الواقعي والوحيد لتسوية النزاع؛ واقع جديد يُعيد تشكيل توازنات الحل بعيدًا عن أروقة الوساطة الأممية التي فضلت الاكتفاء بإشارات باهتة لا تواكب حجم التحول الدولي.

بهذا المعنى، لا تمثل إحاطة أبريل مجرد تقرير أممي عابر، بل تعكس تحولًا عميقًا في موقع الأمم المتحدة داخل هذا الملف، حيث لم يعد زمام المبادرة بيد الوسيط، بل انتقل فعليًا إلى عواصم القرار التي باتت تقود المشهد وترسم ملامح الحل بعيدًا عن توازنات الحياد التقليدي ومحدودية الوساطة الأممية.

وبينما تتسارع وتيرة الاعتراف الدولي بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وتُفتتح القنصليات تباعًا في مدن العيون والداخلة، يواصل دي ميستورا التحرك ضمن منطق الحياد الشكلي، متجاهلًا في تقاريره هذه التحولات الجيوسياسية. بل إن اختياره زيارة جنوب إفريقيا، المعروفة بدعمها للأطروحة الانفصالية، دون القيام بخطوات مماثلة نحو الرباط، عمّق منسوب الشكوك حول مدى التزام الوساطة الأممية بالتوازن والموضوعية.

وفي ظل هذا التحول المتسارع في تموقع الفاعلين الدوليين وتغير موازين الدعم داخل مجلس الأمن وخارجه، تصبح منظمة الأمم المتحدة، اليوم أكثر من أي وقت مضى، مدعوة إلى مواكبة هذه المستجدات بواقعية ومسؤولية، بما يضمن تجديد آليات الوساطة وتكييفها مع معطيات جديدة تُكرّس المبادرة المغربية كمرجعية جدية وعملية. فاستمرار تجاهل هذا التحول، أو التعامل معه بمنطق الحياد البارد، لا يسهم إلا في تكريس الجمود وتقويض مصداقية المسار الأممي برمّته.

تندوف... المنطقة الرمادية في تقارير دي ميستورا

ومن أبرز ما تضمنته الإحاطة، الإشارة إلى الوضع الإنساني الكارثي في مخيمات تندوف وهشاشة أوضاع النساء والأطفال داخل هذه المخيمات، لكنها تبقى في مجملها إشارات محتشمة لا يرقى مضمونها إلى حجم الكارثة التي يعيشها السكان هناك. فغياب الإحصاءات الرسمية، واحتجاز آلاف الأشخاص في ظروف لا إنسانية، واستمرار اختلاس المساعدات الإنسانية، كلها معطيات موثقة في تقارير أممية، كان الأجدر أن تُعطى حيّزًا أكبر ضمن الإحاطة.

بل الأخطر أن هذه المخيمات أصبحت مجالًا خصبًا للتطرف وتجنيد الأطفال، وتفشي الجريمة كما أظهرت ذلك تقارير لمنظمات دولية مستقلة، مما يجعل من التعامل مع تندوف ضرورة أمنية وإنسانية لا تقبل التأجيل.

الوساطة الأممية بين عجز الهيكلة القديمة وحتمية التجديد

في ظل المعطيات الحالية، تبدو الوساطة الأممية التقليدية غير قادرة على مواكبة المرحلة، فاللحظة الراهنة تضع الأمم المتحدة أمام اختبار تاريخي: إما الانخراط في منطق الحل الواقعي القائم على احترام سيادة الدول وضمان كرامة الساكنة، أو الارتهان لمنطق إدارة أزمة مفتوحة لم تعد مقبولة من قِبل المنتظم الدولي. إن اللحظة تفرض تجديدًا عميقًا في هيكلة الوساطة، من حيث المرجعيات والأساليب، لضمان فاعلية سياسية حقيقية تعيد للمسار الأممي مصداقيته، بعيدًا عن التوازنات المصطنعة التي لم تعد تقنع أحدًا.
المطلوب اليوم من الأمم المتحدة ليس فقط حياد الوسيط، بل فاعليته وجرأته في الاعتراف بالحقيقة الميدانية، فقد آن الأوان لتجاوز مرحلة التردد، والانخراط في مقاربة حقيقية لحل النزاع، عنوانها: المبادرة المغربية للحكم الذاتي، باعتبارها الإطار العملي الوحيد الذي يجمع بين الواقعية السياسية، واحترام سيادة الدول، وضمان كرامة السكان.

المبادرة المغربية: رهان التسوية الفعلية وبوابة المستقبل المشترك

في ظل انسداد آفاق منطق "اللا حل" وما خلفه من جمود سياسي، تبرز المبادرة المغربية للحكم الذاتي كخيار وحيد قادر على طيّ صفحة هذا النزاع المفتعل، وفق مقاربة تزاوج بين الواقعية السياسية والانفتاح التنموي؛ فما تحظى به من دعم إقليمي ودولي، وتزايد الاعترافات بمغربية الصحراء، تجعل من هذه المبادرة مدخلًا عمليًا وواقعيًا نحو طي صفحة هذا النزاع، وفتح آفاق جديدة للتنمية والاندماج في منطقة الساحل والصحراء.

إن مسؤولية الأمم المتحدة في هذا السياق لم تعد تقنية أو إدارية، بل سياسية وأخلاقية، تفرض عليها مواكبة التحول الحاصل، والانخراط في دعم خيار أثبت الزمن وجاهته ومصداقيته. لقد آن الأوان للانتقال من تسيير رتيب، إلى فعل سياسي شجاع يؤسس لسلام دائم في واحدة من أكثر المناطق حساسية على خارطة الأمن العالمي.